فلسطين أون لاين

​"حارة المغاربة" أسطورة الصمود في بيت المقدس

وصية "أم سمير" غرفةٌ ونافذةٌ تُطلّان على الأقصى

...
القدس المحتلة-غزة/ مريم الشوبكي

كيف لإنسانٍ أن يتشبث ببيتٍ قوامه غرفة واحدة ومنافع، ويرفض تبديل شيك مفتوح به؟!، هو السؤال الذي يتمنى كل يهودي يحتل سكنًا في القدس أن يعرف له إجابة، كيف له أن يدفع ثمنًا لصموده هذا عشرات آلاف الشواكل ما بين ضرائب وغرامات تكاد تفرض على استنشاقه هواء القدس؟!

لكن تأتي الإجابة بسيطةً جدًّا على لسان امرأة تقطن حي المغاربة، تتحدث بلسان حال كل الفلسطينيين من سكان الحي الأصليين: "علاقتي بالقدس متل علاقة السمك بالمي".

بيتها على ضيقه تراه جنةً فسيحة على وجه الأرض، كيف لا وغرفتها تطل على بقعة من أقدس بقاع الدنيا (حائط البراق والمسجد الأقصى)؟!، لنتعرف معًا إلى ابنة الحي الذي يقع غرب المسجد أم سمير المغربي.

قصة الحي حتى هُدِم

كان لوالد أم سمير بيت فسيح في الحي، قبل أن يحتل الإسرائيليون مدينة القدس بعد حرب عام 1967م، ويهدموا الحي بأكمله ويهجروا أهله، فكانت عائلتها إحدى العائلات التي رفضت النزوح واتخذت في زاوية الحي مسكنًا لها.

تتحدث المغربي (71 عامًا) عن سر تمسكها بالمكان مع مرور خمسين عامًا على تهجيرهم من بيتهم الأصلي، بعد نبذةٍ تاريخية آثرت سردها على مسامع مراسلة "فلسطين": "أطلق على الحي اسم حي المغاربة، لأن أول من سكنه كانوا من أهل المغرب، الذين يعود تاريخ وجودهم هنا إلى عهد صلاح الدين الأيوبي حين فتح بيت المقدس"، مبينةً أن 890 عامًا مرت على وجودهم فيها حيث كانوا يجاهدون معه لتحرير بلاد الشام من بطش الصليبيين.

وبعد تحرير بيت المقدس - والحديث لأم سمير- لم يستطع بعض المغاربة الرجوع إلى بلادهم، فآثروا أن يبقوا هنا حراسًا للمسجد الأقصى، وشكلوا بمساكنهم حيًّا كبيرًا يجمعهم، وبنوا فيه مسجدًا وزاوية، "حتى نفذ الاحتلال الإسرائيلي أول عملية تطهيرٍ عرقي لنا، بعد هزيمة السابع من حزيران عام 1967م، فهجر أهل الحي، وهدم بيوتنا" تضيف.

تتابع: "هاجرت الكثير من العائلات المغربية، والقليل منهم بقي متمسكًا بوجوده داخل الحي"، أما عائلتها فقررت ألا ترحل، واتخذت الزاوية التي كانت تقام فيها الصلاة، والاحتفالات الدينية مسكنًا بطابقين.

ولا يزال يقطن في حي المغاربة الذي سيطر عليه الإسرائيليون بالكامل 13 عائلة، مع كل سياسات التهجير والتكبيل بالضرائب والكفالات الباهظة التي تفرض سنويًّا عليهم.

سر التشبث

"المغربي" نزحت في عام 1967م مع زوجها إلى الأردن، وبعد وفاته نتيجة حادث سير عادت إلى محبوبتها "القدس" في عام 1975م، بتنسيق لم شمل برفقة أطفالها الأربعة، ولكون مسكن أهلها في الحي صغيرًا استأجرت بيتًا كبيرًا في القدس يتسع لها ولعائلتها.

بقيت روحها معلقةً بتلك الغرفة، وتلك النافذة الصغيرة التي تطل على المسجد، لتعود إليها بعد أن زوجت ابنتيها وابنيها، على ضيقها، وتقسيمتها الغريبة، ففي داخلها أيضًا "مطبخ ودورة مياه"، فإنها تمثل للسيدة السبعينية جنة فسيحة لا يشبهها أي بيتٍ في هذا العالم.

تشكو المغربي من منع الاحتلال الإسرائيلي مقدسيي حي المغاربة وضع أي حجر في البيوت، أو ترميم المتهالك منها، وإنهم لا يستطيعون تركها، لأنها حقهم أولًا، ولأن إيجار البيوت في القدس باهظ جدًّا ولا تستطيع الأسر دفعه.

تزيد: "الاحتلال يدفع أهالي الحي والمقدسيين عمومًا نحو فكرة الهجرة، لأنه يريد تفريغ المدينة من سكانها بتضييق الخناق عليهم باستمرار".

تعيش "المغربي" اليوم في بيتها القديم وحيدةً، وحينما يسألها بعض عن سر تمسكها به تجيب: "كيف يمكن لي التخلي عن بيت أبي المكون من غرفة تطل على المسجد الأقصى وحائط البراق؟!، كيف لي أن أتخلى عن هذا المنظر الروحاني الذي لا مثيل له في كل بقاع الدنيا؟!".

لماذا أخاف؟!

بيت "المغربي" أضحى اليوم مزارًا للسياح الأتراك والمغاربة والتوانسة، وغيرهم من العرب والمسلمين الزائرين فلسطين من دول الغرب، أولئك الذين يذهلهم حجم الصمود لدى أهالي حي المغاربة، مع مضايقات "اليهود" وبيوتهم الملاصقة لهم.

"يتساءلون باستغراب كل مرة: كيف تستطيعين التمسك بقرار البقاء بهذا المكان الصغير الذي تحيط به الكاميرات، ويخنقه المستوطنون من كل الجهات؟!" تضيف، مشيرةً إلى أنها غالبًا ما ترد بجملةٍ واحدة: "لماذا أخاف؟!، هم الذين يجب أن يخافونا؛ فنحن أصحاب هذه الأرض وهم الدخلاء عليها".

تسألها مراسلة "فلسطين": "ألم تفكري لحظة في البقاء ببيت قريب من بيت أبنائك؟"، فتجيب: "لم أفكر لحظة هذا التفكير، فالإنسان المستقل ملك نفسه، وأنا أعيش في بيتي براحة كبيرة، مع أن جنود الاحتلال يتسكعون أمام مداخل بيوتنا، ويفتعلون معنا المشكلات، لاسيما في أوقات الأحداث".

وتكمل: "يدعون أن الحي من الأماكن المقدسة لهم، لذا يشددون الخناق، ويكثفون الوجود الأمني غالبًا"، لافتةً إلى أن كل "سنتيمتر" يعيش عليه مقدسي داخل القدس يدفع عنه ضرائب للاحتلال تزيد كل عامٍ عن الذي سبقه، تعلق أم سمير: "ندفع ثمن صمودنا هنا، صدقوني، كل ما ندفعه "مثل العسل" على قلوبنا، لأننا لا نستطيع أبدًا أن نهجر الأقصى".

وترى أن لا مكان في هذه الأرض يصلح بديلًا عن الوطن، "حتى لو عاش المرء في خيمةٍ بداخله يعيش ملك زمانه"، واصفةً عودة المقدسي من خارج القدس بعد سفرٍ أو عمل أو دراسة بأنها مثل عودة الروح إلى الجسد.

تركيبة الإنسان المقدسي لا تشبه تركيبة أي فلسطيني آخر، تؤكد أم سمير، فهناك علاقة روحية تربطهم بشوارع القدس وحاراتها وحجارة أقصاهم المقدس، "هم ينتمون إلى أرضهم قبل انتمائهم إلى أي فكرٍ أو عقيدةٍ أو تنظيم".

الغرفة

وصية "المغربي" التي دائمًا ما تذكر أبناءها بها و"أرضعتهم إياها" - حسبما تصف- ألا يتركوا "الغرفة" عرضةً للاستيطان والسلب الإسرائيليين، وأن يتمسكوا بحقهم فيها، مهما حدث.

وبالعودة إلى التاريخ فإن حارة المغاربة (حي المغاربة) تعود تسميتها إلى الأمازيغ من سكان بلاد المغرب الذين سكنوها في سنة 296هـ/ 909م.

وتقع حارة المغاربة جنوب شرقي البلدة القديمة، بجوار حائط البراق، في السادس من يونيو 1967م خلال حرب الأيام الستة احتل الجيش الإسرائيلي الجزء الشرقي من المدينة المقدسة، الذي كان في ذلك الوقت تحت الإدارة الأردنية.

عند نهاية الحرب دمر الاحتلال الحارة التي كانت تضم 135 بيتًا سكنيًّا، ومسجدين، أحدهما مسجد البراق الشريف.

كان هدف الاحتلال من تدمير الحارة توسعة المكان، مدعيًا وجود أجزاء مخفاة مما يطلق اليهود عليه اسم "حائط المبكى" يريد إظهارها، ولإقامة ساحة لاستقبال مئات الآلاف من اليهود الذين يأتون لأداء الصلاة التلمودية مقابله، بعد أن منعت السلطات الأردنية احتشاد اليهود أمامه من قبل.