لم يعد بالإمكان إخفاء الأمر، فرائحة التطبيع النتنة تنتشر في الأجواء بما يتوفر لها من قوة دفع عبر وسائل الإعلام المُوجّهة، فضلا عما يتوفر لها من منابر في مواقع التواصل، وقبل ذلك وبعده، بما يُوفَّر لها من إسناد عبر جيوش إلكترونية مهمتها توزيع الرائحة على أكبر فضاء ممكن، ولأسباب سياسية معروفة بالطبع.
صحيح أنها خفتت قليلا في أجواء انتفاضة القدس، بعد جريمة ترامب، إلا أن بعضها لم يتوقف عن بث الأراجيف، وما زال يحضر هنا وهناك، بهذا القدر أو ذاك.
نتحدث هنا عن حفنة من الأصوات العربية (ممن نطلق على أصحابها مسمى النخب على سبيل المجاز)، والتي باتت تجاهر بالدعوة للتطبيع مع الكيان الصهيوني؛ أحيانا بدعوى مواجهة إيران، وأحيانا بغير ذلك؛ عبر تبريرات من نوع آخر، وهي أصوات تتردد أصداء دعواتها عبر جيوش إلكترونية كما قلنا.
ما ينبغي أن يقال ابتداء هو أن انتشار الرائحة النتنة لا يعكس قوتها بأي حال، فهي معزولة شعبيا بامتياز، ولا ينبغي للعقلاء والشرفاء أن يشككوا في انحياز الغالبية الساحقة من أبناء الأمة لقضاياها الكبرى، وفي مقدمتها قضية فلسطين، وتبعا لذلك رفضها القاطع للتطبيع مع الكيان الصهيوني.
بل إن المسافة بين ما تراه الأنظمة وما تراه الشعوب ما زالت كبيرة جدا، فالأنظمة اعترفت للكيان بـ78% من فلسطين، وعرضت عليه مقابل الباقي تطبيعا شاملا مع كل الدول العربية والإسلامية، لكنه استخف بها بالطبع، فيما لا يعترف العرب والمسلمون بأي شبر من فلسطين للكيان. ألم يعترف نتنياهو مؤخرا بحقيقة أن الشعوب هي من تمنع التطبيع وليس الحكام؟!
على أن تلك العزلة التي تعيشها تلك "النخب" الداعية للتطبيع، لا يمنع من الرد على سخفها، وتسفيهها بين حين وآخر؛ لا لشيء إلا خشية انطلاء بعض منطقها على البسطاء.
نفتح قوسا هنا لنشير إلى أن من أهم الأدوات التي يستخدمها "شبيحة" مواقع التواصل للتحريض ضد قضية فلسطين، هو القول إن الفلسطينيين يكرهون الخليجيين، مع العلم أن بث أجواء الكراهية والعنصرية هي مهمة "الشبيحة" دائما، وتنتقل القصة من جهة إلى أخرى حسب الحاجة، إذ يمكن أن يقال لاحقا إن المصريين يكرهون الخليجيين، ويمكن أن يقال إن السوريين كذلك أو غيرهم إذ لزم الأمر.
والحال أن هذا الكلام يعكس منتهى السخف، فضلا عن الكذب، فمشاعر الأمة لا صلة لها بالحواجز القُطرية، وهي تحتفي بأبطالها والخيرين من أبنائها بصرف النظر عن أصولهم ومنابتهم، كما أن العنصرية هي منتهى السقوط؛ ضد أي شعب كان. وقد رأينا كيف احتفت الأمة على نحو رائع بموقف رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم في روسيا.
نعود إلى مقولات "النخب" إياها، ومن ورائها أصوات التشبيح، والتي يأتي في مقدمتها أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود. ولعمري إن من لا يرى الدم الفلسطيني الذي يسيل منذ قرن ولغاية الآن، لا يعدو أن يكون أعمى البصيرة، ومن لا يرى أن فلسطين وقعت تحت الاحتلال، ولم يتم شراؤها بالأمتار والدونمات هو سفيه. أما أن يكون حفنة من الناس باعوا هنا أو هناك، فهم ساقطون يتوفر مثلهم في كل شعوب الأرض.
من معزوفات الجهل ما يتعلق بادعاء الحكمة بالقول إن على الفلسطينيين أن يجدوا حلًا مع العدو لأن العناد واستمرار الرفض لم يأتِ بنتيجة، وفي هذا السياق تتردد قصة قرار التقسيم، وكامب ديفيد وسوى ذلك.
هنا يتبدى الجهل المطبق؛ فالعدو لم يوافق على قرار التقسيم، ولم يوافق على أي قرار، ولم يعرض أي شيء في أي وقت، وما موقفه من المبادرة العربية إلا تأكيدا لذلك. هو كان ولا يزال يطلب من الفلسطينيين والعرب التنازلات دون أن يعرض شيئا، اللهم إلا حكما ذاتيا هزيلا على أجزاء من فلسطين لا تتعدى 10% من مساحتها التاريخية.
من نظريات هؤلاء الجهلة القول إن علينا الاهتمام بأوطاننا، ولكأن الاهتمام بفلسطين يمنع الاهتمام بالأوطان. أما الأهم، فهو لماذا لا يتركوا فلسطين وشأنها أصلا، ولماذا يتدخلون في قضيتها لصالح العدو؟!
أما الأكثر جهلا، فيتمثل في التعويل على العلاقة مع الكيان الصهيوني في مواجهة إيران. وهنا سخف آخر، إذ ليس من مصلحة الكيان أن تنتهي الصراعات في المنطقة، بل لا بد من استمرارها لكي يكون الكيان هو الوحيد المتماسك الذي يخطب وده الجميع.
والخلاصة أننا إزاء أصوات تضيف إلى السقوط الكثير من الجهل، وهي تسيء لمن يشغّلونها، في ذات الوقت الذي لن تؤثر في الوعي الجمعي للغالبية الساحقة من أبناء الأمة. بل إن سخفها ما لبث أن استدعى أصوات رفض التطبيع لتعاود نشاطها من جديد، الأمر الذي يعيد قضية فلسطين إلى الصدارة من جديد بعدما اعتقد كثيرون أنها هُمّشت في ظل الحريق الراهن في المنطقة.