اعتقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عندما أعلن قراره المشؤوم بأن القدس المحتلة عاصمة دولة الاحتلال الإسرائيلية أن الظروف مهيأة للانقضاض على القضية الفلسطينية بداية بالقدس وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.. إلخ، بإشغال العرب بقضاياهم والحرائق المشتعلة على أرضهم وأن البلاد الإسلامية ليس بمنأى عن ذلك معتقدا أنهم لم يعيروا القدس الشريف أي اهتمام هذا من جانب، ومن جانب آخر اعتقد جازما أن باقي العالم الغربي سيتبع خطاه، لكن السحر انقلب على الساحر، بفعل قرار أهوج وغير محسوب العواقب، فإن هذه الخطوة قد شكلت جرس إنذار للفلسطينيين والعرب بل وللعالم الإسلامي، فقوبلت بالرفض، وبالتالي قد قوَّض ترامب كل ما قامت به الإدارات السابقة للتوصل إلى حل، بالرغم من إدراك الفلسطينيين والعرب المسبق بإجحافه، وقطع الطريق على العرب الرسميين الذين ذهبوا بعيدًا في التطبيع العلني والسري، لأن أية خطوة في هذا الاتجاه سوف تحرجهم وتظهرهم في موقع المتناقض مع المصالح العربية.
كذلك الحال اصطدم ترامب بالموقف الأوروبي الأكثر مناهضة لموقفه وإدارته، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل كل دول العالم تبرأت من قراره واعتبرته تصرفًا "صبيانيًا" لا يمكن تمريره على غرار "وعد بلفور" المشؤوم. في جلسة مجلس الأمن، عندما وقفت أربع عشرة دولة مجتمعة في جهة رافضة موقف ترامب، ووقفت بلاده وحيدة في جهة أخرى، تحاول الدفاع عن قرارها دون أن تقنع أحدًا، ما يؤكد أن العالم صار يقف في اتجاه وأن ترامب وإدارته في اتجاه آخر، حيث خطط لعزل الفلسطينيين والانقضاض على مشروع دولتهم، فإذا به يعزل نفسه ويعرض إدارته لانتقادات أممية لا سابق لها.
فحينما فكر ترامب أن يظهر نفسه بموقف قوي، وأنه قادر على اتخاذ قرارات تختلف عن رؤساء أمريكا السابقين، جهل بسبب محدودية إمكانياته ومعارفه السياسية، أن اللعب في ملعب القدس، يختلف عن اللعب في ملاعب الصفقات التجارية، ومكائد وتحالفات المال. وحينما ظن أن الوضع العربي مفكك ومنقسم لم يدرك أن للقدس الشريف مكانة دينية ومعنوية وسياسية والقبلة الأولى وثالث الحرمين لدى العرب والمسلمين فهي طامة كبرى، وإن كان يعرف هذا فهو تأكيد على ضعفه السياسي وعدم قدرته على قراءة أمزجة الشعوب، إضافة إلى المساس بهيبة بلاده التي أنزلها عن قمة قيادة العالم إلى درجات أقل من ذلك بكثير، بالتزامن مع الصعود الروسي والصيني، خاصة وأن بوتين سجل على الساحة السورية مجموعة من الأهداف مرة واحدة في الملعب الأمريكي، حيث تصول وتجول السياسة الروسية، دون أن تستطيع السياسة الأمريكية مجاراتها، متذبذبةً مرةً في الإعلان عن محاربة الإرهاب، ومرة أخرى في دعم وتقديم الغطاء للإرهابيين، وقصف مواقع الجيش السوري، الذي يقاتل الجماعات الإرهابية التكفيرية، وحتى السلطة الفلسطينية التي انتهجت طريق المفاوضات فقد أعادها إلى المربع الأول، وبدت مواقفها أكثر تشددًا ووضوحًا، لا سيما وأن القدس تشكل الركيزة الرئيسة لمشروع الدولة الفلسطينية المستقلة الذي تتبناه السلطة منذ بضعة عقود. فأية مغامرة سياسية هي التي أقدم عليها؟، والتي في اعتقادي قد أضرت بالأمريكيين ومصالحهم ومكانة دولتهم، الأمر الذي يتطلب من دوائرهم السياسية والبحثية التحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه السياسة التدميرية، لأن ديموقراطيتهم التي جاءت بـ"ترامب" سترتد عليهم خرابًا وتقزيمًا وتهميشًا.
فما فعله ترامب أنه لفت الأنظار من جديد على القدس الشريف التي تعتبر خطًا أحمر لدى العرب والمسلمين والمسيحيين، بل وطرح أسئلة لا يستطيع ترامب نفسه أن يجيب عنها حول مستقبل القدس، الذي لا يحسمه نقل سفارة أو إعلان مهرجاني متبجح أمام وسائل الإعلام، فبدل أن يسدد ضربة للفلسطينيين والعرب، فإنه دون أن يدري قد وجه ضربة قاسية لسياسة بلاده ومكانتها ودورها بعد أن طرحت نفسها وسيطًا للسلام على مدى سنوات طوال، فوضع مكانة بلاده في جيب نتنياهو، لتبدو صغيرة وتابعة ومسلوبة الإرادة.. والحقيقة أنه عزّل ترامب نفسه وبلاده ولم يعزل الفلسطينيين بإعلانه المتعلق بالقدس، والحقيقة لا يوجد للفلسطينيين ما يخسرونه، فهم ومدنهم وقراهم ومخيماتهم تحت الاحتلال، وما أشبه اليوم بالبارحة، أما خسارة الولايات المتحدة، فتحتاج من الآن إلى مراكز أبحاث، لكي تعدد وتحصي حجمها، لأنها ستفوق كل الحسابات.
وإذا أراد "ترامب" أن يسوِّق الآن للفلسطينيين والعرب أنه جاء بصفقة القرن، فمن الذي سيستمع إليه، ومن الذي سيصدقه أصلًا؟ ولو سأل ترامب سؤالًا صغيرًا، ماذا حقق من إعلانه؟ سوف لا يجد إجابة سوى "صفر كبير" أسهم في هذه الغضبة العالمية، وأن القرار الأمريكي يهدد الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، ما دفع دولًا وأوساطًا وعناصر مؤيدة (لإسرائيل)، وبعضها صهيوني داخل (إسرائيل) وأمريكا، إلى انتقاد هذا القرار لما يمكن أن يلحقه من أضرار بالمصالح والأهداف الأمريكية والإسرائيلية على حد سواء كما أن شعبية ترامب وصلت الحضيض خاصة من حزبه الجمهوري بعد قراره أحادي الجانب بشأن القدس، إضافة إلى كونه ينم عن غباء مطبق وتطرف شديد جعل القوة العظمى الأمريكية تتوسل القيادة الفلسطينية للقاء نائب الرئيس الأمريكي. يذكرني هذا الموقف بما جرى مع الرئيس ريتشارد نيكسون -حفاظًا لماء الموجه- فضل التنحي في بداية فترة رئاسته الثانية بسبب فضيحة "ووترجيت" تحت وطأة تهديد الكونغرس بإدانته وعزله.