قضت المؤامرة على المنطقة العربية إبعاد تركيا، ودحرها ضمن حدودها الجغرافية بعيداً عن قضايا الشرق، وذلك من أجل إفساح المجال لقيام دولة عدوانية تحت اسم (إسرائيل)، دولة لا حياة لها إلا في ظل غياب عدة قوى إقليمية مؤثرة، وفاعلة، وقادرة على صياغة الشرق وفق مصالح سكانه الأصليين، وعلى رأس هذه الدول تركيا الإسلامية.
لقد غابت تركيا عن الشرق مئة عام تقريباً، لتحضر (إسرائيل) اليهودية بعدوانها وتسلطها على سكان المنطقة مئة عام من البطش والدماء والسجون والعذاب والتهجير والمجازر، ونشر الفساد السياسي والإداري والمالي في المنطقة، كمقدمة للسيطرة الهادئة على مراكز القرار.
اليوم تعود تركيا بقوة إلى الشرق، وتحضر في كل قضاياه المصيرية، وتدخل إلى قلوب المسلمين من بوابة المقدسات الإسلامية، ومن الأفق الفلسطيني، وهي تحتضن في استنبول مؤتمر القمة الإسلامي، والهادف إلى توحيد الجهد لمواجهة قرار ترامب، الذي استفز مشاعر المسلمين، وحضهم على التلاقي لمواجهة اغتصاب مقدساتهم الإسلامية.
قمة استنبول التي يؤخذ عليها الحضور الضعيف لقادة الدول الإسلامية، وغياب بعضهم، وعدم مشاركة بعضهم، هذه القمة لن يقف تأثيرها على البيان الختامي الذي أعلن عن القدس عاصمة لدولة فلسطين، واكتفى بمطالبة أمريكا بالتراجع عن قرارها، دون أن يتضمن البيان فرض أي عقوبات على أمريكا و(إسرائيل)، وهذا يعكس الوضع العربي والإسلامي الضعيف غير القادر على اتخاذ موقف قوي وجريء من العدوان الإسرائيلي.
قمة استنبول فرضت تأثيرها المستقبلي من خلال تزعم تركيا للعالم الإسلامي، وقد ظهر ذلك في خطاب أردوغان الذي لفت الانتباه باهتمامه الكبير بكل ما يحدث في فلسطين، هذا الخطاب الموجع للصهاينة أكثر من البيان الختامي، لأنه ذكر الحضور بشخصية أردوغان البطل الذي خرج غاضباً من مؤتمر دافوس سنة 2009، تحقيراً لحديث الإرهابي شمعون بيرس الذي برر العدوان الهمجي على قطاع غزة.
لقد تحدث أردوغان في قمة استنبول، فوصف دولة (إسرائيل) بدولة الإرهاب، التي اقترفت المجازر في دير ياسين، وتقاتل بجيش من المرتزقة، وتقوم بتعذيب الفلسطينيين، إنها دولة احتلال وإرهاب، فكيف يدعم ترامب دولة الاحتلال والإرهاب؟.
لقد أكد الرئيس التركي أن بلاده مع نضال الشعب الفلسطيني حتى تحرير فلسطين، وراح يترحم على أرواح شهداء فلسطين، ويحض الحاضرين على متابعة المشهد الذي يفضح الجنود الصهاينة وهم يعذبون النسوة والأطفال، ليشيد أردوغان بشباب فلسطين الذين يواجهون الصهاينة، واعتبرهم مصدر إلهام لتركيا، بل اعتبر أردوغان النساء الفلسطينيات نموذجاً للتضحية، وقدم لهن التحية والاحترام، ليؤكد أن القدس قبلتنا الأولى، وشقيقة استنبول ومكة وبغداد.
لقد تحدث أردوغان بلغة سياسية جديدة، إنها لغة التحدي، والقوة، تلك اللغة التي ماتت على شفتي الزعماء العرب من سنوات، جاء اليوم الرئيس التركي فنطق بها من جديد، وهو ويعلن عن مواجهة مستمرة مع دولة العدوان، في رسالة تكاد تصطدم بكل أطماع الإسرائيليين، وتوقظ في المنطقة العربية روح التآخي والتوافق خلف الأهداف النبيلة التي يتطلع إليها الشعب الفلسطيني، وقد وجد في تركيا مناصراً وسنداً لن يقتصر تأثيره على الكلمات، ولن تقف عند حدود البيان الختامي الذي دعا كل دول العالم إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة فلسطين، في رد يتناسب مع إعلان ترامب القدس عاصمة لـ(إسرائيل)، وهذا يشير إلى بداية صراع دبلوماسي، سيشهد استقطابا دولياً، ضد قرار ترامب، الذي أمسى على شفا حفرة من السقوط النهائي.