لم يكن البيان الختامي لوزراء الخارجية العرب الذي عقد مطلع هذا الأسبوع في الجامعة العربية متوازيًا مطلقا مع قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المشؤوم بشأن القدس المحتلة وجعلها عاصمة الاحتلال، في المقابل كانت ردود الفعل العالمية الأقوى والأشمل التي أدت إلى عزل الولايات المتحدة الأميركية دوليا كما شاهدنا في مجلس الأمن الدولي أثناء انعقاده الأخير بهذا الخصوص وأدى أيضا إلى نزاع الثقة بها رغم أن هذه الثقة كانت محل شك لدى العديد من شعوب ودول العالم، وكذلك إلى الانتقاص من وزنها على الصعيد الدولي باعتبارها الدولة الأقوى في العالم والتي باستطاعتها حل قضايا ومشاكل العالم من خلال هذا الوزن إلا أن غطرستها وتساوقها مع دولة الاحتلال، أدى إلى ما نحن فيه الآن.
صحيح أن قرار ترامب يتناقض ويتعارض مع القوانين والقرارات والأعراف الدولية وخاصة مع قرارات ومواثيق وأعراف الأمم المتحدة التي أنشئت في الأساس من أجل منع الحروب وحل قضايا الشعوب بالطرق السلمية ورفض الاحتلال، وشرعت مقاومته بكافة السبل بما في ذلك الكفاح المسلح، إلا أن هذا الرفض سواء أكان عبر التصريحات أو سواها من المعارضة الكلامية لا تجدي نفعا ولا تسمن من جوع، فلو قارنا بين مطلب العرب ومطلب ترامب نجد هناك خللا كبيرا من الناحية الجيوسياسية، العرب لا يزالون يصرون على تقسيم القدس الشريف بالمطالبة بالجزء الشرقي للقدس فقط عاصمة لفلسطين، بينما فرمان ترامب منح القدس كاملة _دون تقسيم_عاصمة للاحتلال، وبذلك يكون ترامب قد داس بنعليه على قرارات مجلس الامن الدولي الخاصة بالقدس المحتلة ولم يسقط من يده حق الفيتو وعضوية أمريكا.
وصحيح هذا القرار له انعكاسات على الولايات المتحدة الأميركية ودورها "كراع للسلام"، إلا أن ما حصل لا يكفي من أجل إرغام الرئيس الأميركي على التراجع عن قراره الذي أساء للعالم وقضية شعبنا الوطنية، بل وأظهر وجه ترامب وإدارته الحقيقي البشع والذي يدافع عن الاحتلال أكثر من دفاع الاحتلال عن نفسه.
كل هذه الأمور تم الأخذ بها في الحسبان لكنها غير كافية، فمواجهة سلف ترامب لابد من انتفاضة دبلوماسية مدعومة بحراك سياسي لإدارة المعركة على جميع الأصعدة والجبهات الإقليمية والدولية باستثمار الجهود والطاقات العلمية والدينية والثقافية والإعلامية وغيرها وتسخيرها في خدمة قضية القدس الشريف باستغلال هذا الزخم الدولي المناصر لها وتوجيهه لصد فرمان ترامب وإجباره على التراجع عنه. اما فلسطينيا فالمطلوب بالإضافة إلى هذه الخطوات هو اتخاذ قرارات عملية جريئة، وعدم الاكتفاء بالتصريحات والخطابات، وأولى هذه الخطوات العملية هو تحقيق المصالحة الوطنية فورا، وعدم الرهان على الحلول السلمية التي أوصلت قضيتنا إلى ما وصلت إليه الآن.
فالرهان كل الرهان على جماهير شعبنا اولا وجماهير أمتنا العربية والإسلامية ثانيا، من خلال دعم صمود شعبنا تحت الاحتلال في كافة أماكن تواجده وخاصة في مدينة القدس التي تستحق عقد قمة عربية عاجلة فور الإعلان الخطير الذي أصدره ترامب ووجه فيه لطمة قوية لكل زعماء العالم العربي والإسلامي ولمشاعر العرب والمسلمين قاطبة؟ ألا تستحق القدس ومقدساتها أن يتخذ الحكام العرب على الأقل خطوات ذات مغزى كاستدعاء سفراء أميركا والتهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية إذا لم تتراجع واشنطن عن هذا الإعلان؟ ألا تستحق القدس ممارسة ضغط اقتصادي على الولايات المتحدة الأميركية كي تحترم الشرعية الدولية وقراراتها؟ فاذا كانت أميركا أو ترامب لا يفهمان سوى لغة المصالح، فإن لدى الأمة العربية والإسلامية الكثير من الأوراق لتوجيه رسالة واضحة لواشنطن بأنها طالما تدوس على حقوق ومصالح العرب والمسلمين فإننا غير ملزمين باحترام مصالحها مع المنطقة العربية - الإسلامية.
لذا آن الأوان كي يستفيق العرب من هذا السبات وأن يغادروا دائرة البيانات والجعجعة التي لا تقدم ولا تؤخر، وان يعملوا على صيانة حقوقهم ومصالحهم لا أن يظل النظام العربي كمن يدفن رأسه في الرمال أو كمن يواصل التمني والرهان على دور أميركي نزيه إزاء قضايا هذه الامة، خدعونا على مر العقود السابقة حين أنهوا الانتفاضة الأولى باتفاق اوسلو، وانهوا الانتفاضة الثانية بخارطة الطريق، والآن تريد أمريكا خداعنا بصقة القرن بل أنشئت طعنة القرن بسقوط وضياع القدس الشريف، مهجة عين العرب وقبلة المسلمين الاولى.
ان استعادة عاصمة الثقافة وأولى القبلتين مسؤولية كل العرب والمسلمين، فخطوة عملية واحدة هي أفضل من مليون تصريح أو خطاب رغم أهمية ذلك في حشد الجماهير، ليس فقط وقف الاتصالات مع امريكا، بل وأيضا وقف الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي الذي عمل ولا يزال على وأد حل الدولتين ضاربا بعرض الحائط هو الآخر بالقرارات الدولية بدعم من الولايات المتحدة الأميركية، وثالث هذه الخطوات الاتفاق على وضع برنامج عملي لمواجهة هذا القرار الذي ينطوي على خطورة كبيرة ويؤكد على أن الرهان على أميركا ودورها في المنطقة هو رهان خاسر بكل المقاييس والمعايير.