فلسطين أون لاين

​الفصائل الفلسطينية والمصالحة الغائبة

...
معين الطاهر

ليس من المعتاد أن تبدأ مقالة عن المصالحة الفلسطينية بسؤال عن الموضوعات والقضايا المصيرية المرتبطة بما آلت إليه المصالحة بين حركتي فتح وحماس، والتي نوقشت واتفق عليها في اجتماع "فصائل وقوى وفعاليات العمل الوطني الفلسطيني" بالقاهرة يومي 21 و22 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، لكنّ هذا الاستغراب يزول تمامًا بعد تحوّل الدخان الأبيض الخارج من أروقة المجتمعين إلى دخانٍ رمادي، سرعان ما اختفت آثاره وسط ضجيج القاهرة وتلوث أجوائها.

لم يتضمن البيان الختامي أمرًا ذا قيمة إضافية، يتعلّق بعملية المصالحة التي باتت تشبه إلى حدّ بعيد عملية "السلام"، فضلًا عن ارتباطها العضوي بتطوراتها، وشروط أطرافها، واشتراطات الدولة الراعية والدولة الحاضنة والممولة، وغيرها من الدول والمحاور واللجان، لكنّ أهم ما فيهما من تشابه أنّ كليهما تحوّل إلى عمليةٍ من دون نتائج متولدة عنها: عملية السلام مستمرة منذ عقود، وستستمر إلى أجل غير مسمى، ولكن من دون سلام، وعملية المصالحة مستمرة أيضًا، وتتعاقب عليها المبادرات والاتفاقات واللقاءات، من دون أن تُثمر حتى اليوم مصالحة، ولو بحدّها الأدنى الذي يتضمن شكلًا أو آخر من إدارة الانقسام الطويل والمميت.

بحسب البيان الختامي نفسه، وتصريحات مسؤولين من الطرفين يبدو أنّ المصالحة وانعكاسها على أهل غزة كانت غائبة أو مغيّبة عن هذه الاجتماعات، التي لم ينسَ المؤتمرون فيها توجيه تحية إلى المرأة، وإدانة الولايات المتحدة لعدم تجديدها تصريح عمل مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ورفض الحلول الانتقالية والدولة ذات الحدود المؤقتة، لكنّهم تجاهلوا بحث الملفات التي تتعلّق بلم شتات أجزاء من دولتهم المتخيلة أو مُنعوا منه، فيظنّ بعضهم أنّ حدود هذه الدولة لن تُرسم في غزة والقدس العربية ورام الله، ما يستدعي تضافر جهودها ووحدتها، وإنّما في واشنطن والقاهرة والرياض و(تل أبيب).

لم يتضمن البيان أي تلميح قريب أو بعيد عن فتح معبر رفح: موعده، وشروطه، هل هو معبر فلسطيني مصري، يشرف عليه الطرفان بشكل حر ومستقل، أم أنّه معبر خاضع للاتفاق مع الكيان الصهيوني، عبر بعثة المراقبة الأوروبية المرتبطة إلكترونيًّا بغرفة عمليات صهيونية تسمح العبور وتمنعه؟، بل بحسب تصريحات عضو المكتب السياسي لحركة حماس صلاح البردويل إنّ نقاش هذا الموضوع قد مُنع تمامًا، ربما تجنبًا لإحراج السلطات المصرية والفلسطينية، ما يجعل مشروعًا سؤال أهل غزة بشأن المعبر، رئتهم الوحيدة المؤدية إلى العالم الخارجي، الذي أُغلق أزيد من ثلاثمائة يوم في عام 2017م: عن مافيات التنسيق المنتشرة على جانبيه، التي تجبر المسافرين على دفع مبلغ ثلاثة آلاف دولار رشى، وعن مدى تلاقي الرغبة الصهيونية ورواد الفساد وغياب الإرادة السياسية، واجتماعهم على إحكام الحصار على غزة.

لم يقتصر الأمر على المعبر الذي لم يفطن المجتمعون أنّه رمز لاستمرار الحصار والمعاناة اليومية، بل تعدّاه إلى تجنب الإشارة إلى العقوبات التي فرضتها السلطة الفلسطينية على غزة منذ أشهر ولم تُرفع، أو يُحدّد تاريخٌ لرفعها، وكأنّها أصبحت قدرًا إضافيًّا مفروضًا على هذا القطاع، مع توقعاتٍ سابقةٍ للاجتماع باتخاذ الرئيس هذا اللقاء مناسبةً لإعلانه رفع العقوبات الظالمة.

عمليًّا كانت الاجتماعات تطبيقًا للشعار الذي صرّح به مسؤول ملف المصالحة في حركة فتح عزام الأحمد، عدم جدوى فتح أي موضوع أو نقاشه في هذا اللقاء، أو في غيره، قبل "التمكين الكامل" للسلطة. وهو شعار يحمل مدلولات وتفسيرات خطرة ومتباينة، ويمكنه في أي لحظة أن ينسف مجمل عملية المصالحة، خصوصًا في ظلّ تصريحات أخرى عن عقبات مختلفة في عملية "التمكين" وغيرها، تناولت السلاح، وخصوصًا سلاح المقاومة.

يُشتمّ من هذه التصريحات أنّ ثمّة طرفًا يريد الاستقواء على الآخرين، واستغلال ظروف الحصار ومعطيات دولية وإقليمية لفرض إرادته ورأيه على المجموع الفلسطيني، متناسيًا أنّ هذه المستجدات قد يكون هو أول ضحاياها، وليست زيارة الرئيس محمود عباس الرياض أخيرًا، والمقترح الأميركي للتسوية، وعدم تجديد تصريح مكتب بعثة منظمة التحرير في واشنطن بعيدة عن الذهن، وواضح لكل ذي بصيرة أنّ مواجهة ذلك لا تستقيم بـ"التمكين"، بل الشراكة، والاتفاق على برنامج سياسي وطني.

يتضمن بيان اجتماع الفصائل الفلسطينية في القاهرة عودة مكرّرة إلى تاريخ الاتفاقات السابقة، ومطالبة معادة بتنفيذ ما ورد فيها والالتزام به، من دون أن يتساءل _ولو مرة_ عن أسباب عدم تنفيذ ذلك وتفعيله، أكان ذلك عند توقيع هذه الاتفاقات، أم بعد جفاف حبرها؟

وفي البيان دعوة واضحة إلى تطوير منظمة التحرير و"تفعيلها"، على وفق إعلان القاهرة المُوقّع عام 2005م، وفي هذا اعتراف واضح بأنّ الممثّل الشرعي والوحيد كيان غير مُفعّل، وبحاجة إلى تفعيل، وهي عبارة تردّدها كل الفصائل بلا خجل، وربما بلا تفكير في كل أدبياتها وبياناتها، من دون أن تسأل: لماذا لم تُخرج من ثلاجة الموتى، بعد أن تنبه المعنيون إلى ذلك، ووقّعوا إعلان القاهرة عام 2005م؟!، وما الذي أدّى بها إلى هذا الحال منذ اتفاق أوسلو؟!

وللتذكير: منظمة التحرير غير المفعلة هي التي يُفترض بها أن تمثّل الشعب الفلسطيني في المفاوضات، وهي المرجعية التي تجاهلها وأبعدها عن المشهد القائمون عليها، بعد اتهام كل من يسعى إلى عودة المنظمة إلى ثوابتها بالتشكيك في وحدانية التمثيل الفلسطيني، وإذا كانت دعوة تفعيل المنظمة قد استندت إلى إعلان عام 2015م؛ فإنّ الدعوة إلى إحياء لجنة الحريات قد استندت إلى اتفاق عام 2011م، أمّا الدعوة إلى سيادة القانون وحفظ الأمن والاستقرار فقد استندت إلى اتفاق 2017م، في حين تجاهل اتفاقي عامي 2012م و2014م واتفاقي غزة والدوحة البيان الذي يدعو لجنة الانتخابات المركزية لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية قبل نهاية عام 2018م، في وقتٍ يخوّل فيه الرئيس محمود عباس تحديد موعد الانتخابات، ولعله بذلك بقصد أو من دونه يمدّد لهذه الشرعيات عامًا إضافيًّا، ويترك أمرها بيد الرئيس.

ثمّة شك عميق في أن يتوصل الفرقاء إلى مصالحة حقيقية، تعيد توحيد جزأين عزيزين من فلسطين، لأسبابٍ قد تتجاوز الوضع الفصائلي الفلسطيني إلى معطياتٍ سياسيةٍ وإقليمية ودولية، واستمرار الرهان والتعلّق بذيول تسويةٍ متخيّلة، لكن ثمّة أملٌ في التوافق في الحد الأدنى على إدارة لهذا الانقسام، تتكفل بالتخلص من بعض مسبّباته، وتتعهد بإنهاء الحصار على غزة، وتخفيف معاناة أهلها، إن لم يكن تخلصيهم منها، لكنّ هذا الأمل بات يتراجع، إذ ما زال الفلسطينيون غير قادرين، ليس على التخلّص من نزاعاتهم فقط، بل أيضًا على عدم إدارتها بطريقةٍ تجنبهم أضرارًا أكبر، وهي ليست مسؤولية الفلسطيني فحسب، وإنّما مسؤولية كل من يعبثون بقضيته، ويتلاعبون بها، ويتآمرون عليها.