على صغر سنّه إلا أنه أحدث فارقًا كبيرًا في نهج المقاومة الفلسطينية، فعلى يديه ولدت المجموعات الجهادية المقاومة في الضفة الغربية، وصُوِّرت أول عملية للمقاومة الفلسطينية.
تنقل مطاردًا بين قطاع غزة -حيث مسقط رأسه- والضفة الغربية قبل أن تناله يد الغدر الإسرائيلية، التي ركز جهوده على بترها من خلال تصفية العملاء؛ فمهمة البحث عن رفيقٍ لأسطورة "حماس" الشهيد عماد عقل لم تكن سهلة، ذلك أن معظم من عاشروه فوق الأرض هم الآن في رحمة الله.
من هو؟
يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: "ﺇﻥ ﺳﺄﻟﻮﻙ ﻋﻦ ﻏﺰﺓ، ﻗﻞ ﻟﻬﻢ: "ﺑﻬﺎ ﺷﻬﻴﺪ، ﻳُﺴﻌﻔﻪ ﺷﻬﻴﺪ، ﻭﻳُﺼﻮﺭﻩ ﺷﻬﻴﺪ، ﻭﻳُﻮﺩﻋﻪ ﺷﻬﻴﺪ، ﻭﻳُﺼﻠّﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﺷﻬﻴﺪ".
هذه الأبيات تنطبق تمامًا على الفلسطينيين لا سيما هنا في قطاع غزة، لن تجد فلسطينيًا واحدًا لم يسمع بـ"الشهيد الملثم" الذي هزّ عرش الشاباك الإسرائيلي وقضّ مضاجع المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، التي سخّرت جميع قواها للنيل من هذا المقاوم الذي فضل البقاء على أرض فلسطين بدلًا من اللجوء لأي دولة أخرى خارجها.
هو ابن مخيم جباليا لللاجئين الفلسطينيين الذين تجرعوا مرارة النكبة الفلسطينية عام 1948، ثم النكسة عام 1967، ولد في 19 حزيران/ يونيو عام 1971، لأب كان يعمل مؤذنًا لمسجد الشهداء في المخيم، بعد أن لجأ إليها مهجّرًا من قرية برير القريبة من مدينة المجدل المحتلة.
عُرف عن الشهيد عماد عقل تفوقه الدراسي طيلة سنوات دراسته في المراحل الثلاث، وعند تقدمه بطلب للالتحاق بمعهد الأمل في مدينة غزة لدراسة الصيدلة، اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي في 23-9-1988 بتهمة الانتماء لحركة "حماس" والمشاركة في فعاليات الانتفاضة عام 1987، فحُكم عليه بالسجن لـ 18 شهرًا انتهت في شهر آذار 1990.
مجموعات الضفة
فترة سجنه لم تكن بالنسبة له عقوبة، بل لربما ساعدته في التعرف على أقرانه في الضفة الغربية، على الشباب الفلسطيني الثائر على المحتل، والذي يشارك "عقل" روح المقاومة ونية الجهاد في سبيل الله لتحرير أرض فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي وأعوانه.
خرج "عقل" من أسرِه، لينشط كضابط اتصال بين "مجموعة الشهداء"، وهي أولى مجموعات كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" التي أعلنت عن نفسها عام 1987، وكانت مهمته -الشهيد عقل- أن يكون حلقة الوصل بين هذه المجموعة وبين قيادة كتائب القسام.
مهمة هذه المجموعة التي نشطت في شمال قطاع غزة في أوائل التسعينيات،" ملاحقة العملاء وتصفيتهم"، ولكن ما لبث أن طرأ تطور خطير على سير خطه الجهادي، وذلك بعد أن تم اعتقال اثنين من المجموعة التي يقودها، وتحت سطوة التعذيب اعترف أحدهما بأسماء من يعرفهم وكان من بينها اسم الشهيد عماد عقل وذلك في 26-12-1991.
ومنذ ذلك التاريخ انكشف اللثام عن الشهيد وأصبح مطلبًا للشاباك، وأعوانه من العملاء الذي حاولوا مطاردته وحصاره بشتى الطرق، ومع ذلك؛ ورغم كل التضييق والملاحقات تمكن من الذهاب إلى الضفة الغربية -ضمن مجموعة من المقاومين المطاردين من أبناء الكتائب- والتي تلقت ضربة قوية باعتقال ثلاثة من أفرادها من قبل الاحتلال الإسرائيلي ما دفع الشهيد عقل، ومن بقي معه للانتقال من مدينة رام الله إلى الخليل، وهكذا عاش مطاردا يتنقل من مكان لآخر.
أشرفَ عقل على تشكيل مجموعات مقاومة لكتائب القسام في الضفة الغربية وتنفيذ عمليات هناك وأخذت أهداف المقاومة الفلسطينية تتطور، من ملاحقة العملاء وتصفيتهم إلى مقارعة جنود الاحتلال وتصفيتهم، أو حتى أسرهم لمبادلتهم بالمقاومين الأسرى لدى الاحتلال الإسرائيلي وعلى رأسهم في تلك الفترة كان الشهيد مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين.
ومع ارتفاع وتيرة العمليات المقاومة في الضفة الغربية التي نفذتها مجموعات الشهيد عماد عقل، زادت وتيرة الملاحقة العسكرية والأمنية لهم من قبل الاحتلال الإسرائيلي وكذلك نشط العملاء وارتفع مستوى الخطة، ما حدا بالشهيد عماد عقل ومن بقي معه من المطاردين العودة إلى مسقط رأسه في قطاع غزة، واستكمال عمله الجهادي هناك.
بعد أوسلو
لحق بالاحتلال الإسرائيلي العديد من الخسائر، فرغم بساطة العمليات إلا أنه كان لها وقع مدوٍ على الاحتلال من حيث الخسائر وعلى الشارع الفلسطيني الذي احتضن الشهيد عقل ورفاقه وهتف بأسمائهم وباسم المقاومة وأحيا روح الكفاح بعد سقوطها في "فخ" معاهدة "أسولو عام 1991.
اسحاق رابين خامس رئيس وزراء إسرائيلي، والذي لقي مصرعه بإطلاق الرصاص عليه ومقتله في 4 نوفمبر 1995 على يد قاتل يهودي اسمه إيجال عامير.. يعد رابين من أشهر رجالات النخبة "البالماخ" المتفرعة من عصابة الهاجاناة الصهيونية التي أمعنت بالفلسطينيين قتلًا وتهجيرًا في منتصف القرن الماضي، لم يجد هذا الرجل حلًا مع هذه "الأسطورة" الفلسطينية -كما وصفه رابين- والتي كانت تختفي عن أعين الشاباك وعملائه بلمح البصر، إلا المهادنة.
طلب رابين من عائلة الشهيد عقل أن يغادر قطاع غزة إلى مصر أو الأردن دون أن يمس بسوء، وألا يعود لمدة ثلاث سنوات، لكن "الملثم" رفض، وقال جملته الشهيرة: "إن رابين أو أحدًا من زبانيته الأقزام لا يملك أن يمنع نفسًا تاقت إلى الشهادة من أن تهاجر إلى ربها بعرس ملائكي حافل"، وأقسم ألا أغادر الوطن حتى يلقى الله أو يهلك دون ذلك.
مآثره، ومواقفه، وبطولاته التي أحيت سيرته في الشارع الفلسطيني رغم مرور 24 عامًا على استشهاده، لا تكفي هذه السطور القليلة لعرض سيرة شهيد قضى في منزل أم الشهداء "أم نضال فرحات" بعد سنوات من المطاردة، ليقضى شهيدًا في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1993، إثر اشتباك طويل انتهى بارتقاء هذه الروح الثائرة والتي نعتها حركة "حماس" عبر البيان التالي:
بيان التأبين
بسم الله الرحمن الرحيم، "وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، القائد عماد عقل سيد الشهداء المظفـر وفارس الميامين الأغر، الله أكبر أيها النسر المحلق في سماء فلسطيــن، الله أكبر أيها الصقر الكاسر في وطن الثورة والتحدي، الله أكبر أيها الفارس الذي ترجل إلى علييـن، الله أكبر أيها البطل الذي أعيى الحياة، وما ناله نصب ولا وهـن، ما نبكيك حزنًا يا سيد الشهداء.. بل نبكيك فرحًا وأنت من المصطفين الأخيار مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
رحماك يا ملحمة الشجاعة وسفر الرجولة والبسالة، رحماك أيها القائد الذي دوخ العدو عقلًا وتخطيطًا وتنفيـذًا، رحماك أيها الثائر الذي جاب رحاب غزة وخانيونس وجباليا ورفح والخليل، مؤسسًا لقواعد المقاومة، ومدربًا لرجالها وقائدًا لبطولاتها في وجه الصهاينة الغادرين. درس الدروس، وعبرة العبر، حفظتها الأجيال عنك يا سيد الشهداء المظفر. لن نلقي سلاحنا... سلاحنا بقاؤنا، وبقاؤنا المقاومة، فاستبشر أيها المسجى بنور الإسلام، المجبول بتكبيرات الإله، الراقد على ثرى الوطن الذي أبيت مغادرته، فزت ورب الكعبة.
هنيئًا لك شربة الفوز من حوض قائدك العظيم ورائدك في درب الجهاد الرسول القائد محمد صلى الله عليه وسلم.. وعهدنا هو العهد؛ وقسمنا هو القسم.. وثأرنا هو الثأر.. ولكل قطرة من دمك الطهور أيها القائد الشهيد، سيطير رأس صهيوني غادر.
"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا، بل أحياء عند ربهم يرزقون"، والله أكبر.. والنصر لشعبنا المجاهد، وإنه لجهــــاد؛ نصـــر أو استشهاد، حركة المقاومة الإسلامية "حماس".