لم يكن الإفراج عن الأسير المحرر مصعب مدوخ، البالغ من العمر أربعين عامًا، نهاية لمعاناته مع الاحتلال الإسرائيلي، بل كان بداية لصدمة إنسانية تتجاوز قسوة السجون والزنازين.
بعد عامٍ وثمانية أشهر قضاها خلف القضبان، خرج مدوخ في الثالث عشر من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ليكتشف أن الاحتلال لم يكتفِ بسلب حريته، بل سلب منه عائلته بأكملها بعد استهداف مباشر لمنزلهم في حي الصبرة جنوب شرق مدينة غزة.
مصعب مدوخ هو أحد 1700 أسير من قطاع غزة أفرج عنهم الاحتلال ضمن اتفاقية وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، التي جرت بوساطة مصر وقطر وتركيا، ودخلت حيز التنفيذ في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر. معظم المفرج عنهم وصلوا وهم يعانون أوضاعًا صحية ونفسية بالغة السوء، نتيجة ما تعرضوا له من تعذيب وتجويع وإهمال طبي داخل السجون الإسرائيلية.
تحقيق قاسٍ
يروي مدوخ تفاصيل اعتقاله قائلاً إنه اعتُقل في الثامن عشر من آذار/مارس 2024 داخل مستشفى الشفاء، خلال اقتحام قوات الاحتلال للمجمع الطبي. وبعد تحقيق ميداني قاسٍ، جرى نقله مكبّل اليدين برفقة عدد من المعتقلين، وسط اعتداءات بالضرب المبرح والإهانات، إلى سجن "سدي تيمان" سيئ السمعة، حيث أمضى قرابة شهرين في ظروف قاسية، قبل نقله لاحقًا إلى سجن "النقب".
تنقل مدوخ بين عدة أقسام وغرف داخل السجن في ظل سياسة ممنهجة من القمع والتنكيل، شملت الضرب المتكرر دون سبب، والحرمان من العلاج والأدوية، ومنع اللقاء بالمحامين أو الزيارات العائلية، في انتهاك صارخ لكل القوانين والمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الأسرى.
ويؤكد مدوخ لصحيفة "فلسطين" أن ما يتعرض له الأسرى الفلسطينيون داخل سجون الاحتلال يرقى إلى جرائم حرب، خاصة في ظل محاولات الاحتلال سن قوانين تشرعن قتل الأسرى وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية. ويطالب المؤسسات الدولية والحقوقية بتحمل مسؤولياتها والعمل الجاد لوقف الانتهاكات المستمرة بحق الأسرى.
أقسى الصدمات
غير أن أقسى ما واجهه مصعب لم يكن داخل السجن، بل بعد خروجه إلى الحرية. بمجرد الإفراج عنه، تلقى خبر استشهاد زوجته وأطفاله الستة، الذين لم يتجاوز أكبرهم الخامسة عشرة من العمر، إثر استهداف الاحتلال لمنزل العائلة بشكل مباشر أثناء تواجدهم داخله في حي الصبرة.
كما أسفر القصف ذاته عن استشهاد ثلاثة من إخوته، وشقيقته، وزوجها، وأطفالها، ليرتفع عدد الشهداء من العائلة إلى تسعة عشر شهيدًا، حسبما أفاد مصعب.
ويقول مدوخ إن الاحتلال قصف منزلهم في التاسع والعشرين من كانون الثاني/يناير 2024، أي قبل اعتقاله بأسابيع، لكنه لم يكن يعلم بمصير عائلته حينها بسبب خطورة المنطقة واستمرار القصف وانقطاع وسائل الاتصال وعدم قدرته على الوصول إلى المكان أو التواصل مع أي من أفراد أسرته.
ويكمل: إن حجم الدمار والخطر حال دون انتشال جثامين الشهداء لفترة طويلة، حيث جرى استخراج بعض الجثث بعد نحو عام، في ظل غياب الآليات والمعدات اللازمة، وبجهود شخصية من بعض أفراد العائلة، في مشهد يلخص حجم المأساة التي تعيشها العائلات الفلسطينية في غزة.
ذكرى لا تفارق الذهن
ورغم محاولته التماسك، يعترف مصعب أن صورة ابنه البكر "بشير" لا تفارق خياله، فقد كان شديد التعلق به، ولا تزال ابتسامته ترافقه في كل لحظة. ويضيف أنه يحاول بين الحين والآخر الوصول إلى مكان المنزل المدمر، ويتحدث مع زوجته وأطفاله كما لو كانوا ما زالوا هناك، لكنهم رحلوا بلا رجعة.
ليست قصة مصعب استثناءً، بل نموذج صارخ لمعاناة آلاف الأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم. ووفق منظمات حقوقية فلسطينية وأخرى معنية بشؤون الأسرى، لا يزال أكثر من عشرة آلاف فلسطيني يقبعون في سجون الاحتلال، بينهم أطفال ونساء، في ظروف غير إنسانية أدت إلى استشهاد بعضهم نتيجة التعذيب والإهمال الطبي.
وفي الوقت الذي يخرج فيه الأسرى من الزنازين مثقلين بالجراح، يكتشف كثيرون أن الاحتلال سبقهم إلى بيوتهم، فدمرها وقتل من فيها، في سياسة واضحة تستهدف الإنسان الفلسطيني في حياته وحريته وعائلته، في انتهاك مستمر لكل القيم الإنسانية والقوانين الدولية.