تمثل اللحظة الراهنة في تاريخ كتائب القسام "منعطفاً رمزياً وعسكرياً" فائق الحساسية. فإعلان استشهاد ثلة من قادة الصف الأول، وعلى رأسهم قائد أركانها محمد السنوار (أبو إبراهيم) وناطقها الرسمي الشهير حذيفة الكحلوت (أبو عبيدة)، بالتزامن مع ظهور "أبو عبيدة الجديد"، ليس مجرد حدث إخباري، بل هو وثيقة عسكرية تكرس مفهوم "المقاومة المستدامة"
أولاً: (الميدان والكلمة).. دلالة استشهاد القادة
إن نعي "قائد الأركان" و"قادة الألوية والتصنيع" جنباً إلى جنب مع "قائد منظومة الإعلام" يعكس وحدة المصير ووحدة الميدان في فكر القسام:
محمد السنوار ورائد سعد ومحمد شبانة ورائد سعد وحكم العيسى: هؤلاء يمثلون "العقل العملياتي والتصنيعي". استشهادهم وهم في قلب المواجهة يغلق ثغرة التشكيك في وجود القيادة بعيداً عن الجبهات، ويمنح "الخلف" شرعية الدم التي هي أقوى من شرعية التكليف التنظيمي.
حذيفة الكحلوت (أبو عبيدة المؤسس): الكشف عن هويته بعد استشهاده، فقد أراد القسام القول إن من أدار حرب الوعي لعقدين لم يكن مجرد "صوت"، بل كان قائداً كابَدَ الميدان حتى نال أمنيته، ليترك خلفه "مدرسة" لا مجرد "ذكرى".
ثانياً: "أبو عبيدة" من الشخص إلى اللقب.. وراثة الفكرة
جاء في الخطاب: "ورثنا عن القائد حذيفة الكحلوت لقبه (أبو عبيدة)، وعهدًا أن نواصل المسير". هذه الجملة تمثل تحطيم الرمزية الفردية: بمجرد انتقال اللقب لناطق جديد، يدرك الاحتلال أنه أمام "مؤسسة ناطقين" وليس فرداً واحداً. هذا يفرغ عمليات الاغتيال من محتواها الاستراتيجي؛ فإذا قتلتم "أبو عبيدة"، سيخرج من بين الركام "أبو عبيدة" آخر بنفس الزي، والنبرة، والموقف.
الاستمرارية الهيكلية: ظهور الناطق الجديد بكلمات تعكس "الرضا واليقين" يؤكد أن سلسلة القيادة والسيطرة في المنظومة الإعلامية لم تتأثر بغياب رأس الهرم، مما يعكس مرونة تنظيمية هائلة.
ثالثاً: تحليل الرسائل السياسية والميدانية في الخطاب الجديد
الناطق الجديد لم يبدأ من الصفر، بل بنى على "المظلومية المنتصرة" وأسس لمرحلة ما بعد توقف القتال:
الالتحام بالحاضنة: "نحن منكم وأنتم منا".. هي رسالة ترميم وجدانية لجمهور غزة، تهدف لقطع الطريق على أي محاولات إسرائيلية لإحداث فجوة بين الشعب ومقاومته بعد حجم الدمار الهائل.
تثبيت معادلة: وصف وقف إطلاق النار بأنه "ثمرة الصمود" وتأكيد "الحق في الرد" يعكس أن المقاومة، رغم خسارة قادتها، لا تزال تملك القدرة على الاستمرار ولا تتحدث بلغة المنكسر، بل بلغة المراقب والملتزم من موقع الاقتداء.
رابعاً: الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي (المعضلة المتجددة)
بالنسبة للاحتلال، هذا الخطاب هو "كابوس أمني" لعدة أسباب:
تجدد الهدف: ظن الاحتلال أنه بإنهاء حياة حذيفة الكحلوت قد طوى صفحة "الملثم" إلى الأبد، ليفاجأ بأن "الملثم" عاد كفكرة عابرة للأشخاص، مما يعني أن المعركة النفسية عادت لنقطة الصفر.
القدرة على الإنتاج تحت النار: خروج خطاب بهذا الترتيب والوضوح يعني أن "المطابخ الإعلامية" والتقنية للقسام لا تزال تعمل بكفاءة، رغم هول وحجم العدوان ومن"المسح التكنولوجي" لكل شبر في غزة.
تآكل سردية الحسم: يراقب "الشاباك" و"الموساد" هذا الظهور بصفته دليلاً على أن ما دعاه "جيوب المقاومة" التي يزعم الجيش تطهيرها لا تزال قادرة على إنتاج فعل سياسي وإعلامي من قلب غزة. هذا يضع نتنياهو أمام معضلة: "كيف ننتصر على عدو لا يزال يمتلك منبراً اعلاميا وأن هيكليتها ليست "هرمية صلبة" تنهار بقطع الرأس، بل هي "بنية شبكية مرنة". استشهاد قادة المجلس العسكري والألوية لم يؤدِ إلى الفراغ، بل تم تفعيل "القيادات البديلة"
خلاصة الموقف:
إن استراتيجية "الفكرة لا تُغتال" هي التي تجعل من المقاومة الفلسطينية بنية غير قابلة للانكسار. فالمقاومة التي تؤسس رموزها على "المعاني" لا "الصور" هي مقاومة تمتلك ديمومة تتجاوز أعمار القادة. أبو عبيدة رحل أو بقي، فالملثم صار وطناً، والوطن لا يموت.
ونحن أمام مرحلة "المقاومة الشبكية"، حيث يتحول القائد إلى ملهم، والناطق إلى مدرسة، والشهادة إلى وقود لإعادة التشكيل. إن "أبو عبيدة الجديد" ليس مجرد بديل، بل هو إعلان عن فشل مشروع "كي الوعي" الإسرائيلي. لقد استشهد "حذيفة" الجسد، ليبقى "أبو عبيدة" الرمز، ولتثبت غزة أن "المؤسسة" التي هزمت الصورة هي مؤسسة ولّادة، قادرة على إنتاج القادة تحت أزيز الطائرات ومن وسط الركام.
الرسالة الختامية للمقاومة: "الجسد يرحل، لكن اللثام باقٍ، والكلمة التي خطت بالدم هي البيان الذي لا ينتهي".

