بين خيمة وأخرى، لم تعد المسافة تقاس بالأمتار فقط، بل بحجم الخطر الكامن في الهواء والأرض. في مخيمات النزوح في مدينة غزة، تتداخل حياة البشر مع النفايات ومياه الصرف الصحي، في مشهد يختصر وجها آخر من وجوه الحرب المستمرة. هنا، لا يهدد القصف وحده حياة النازحين، بل تحاصرهم أزمات بيئية وصحية يومية، صامتة لكنها أشد فتكا، صنعتها البنى التحتية المدمرة وغياب الخدمات الأساسية.
أكوام القمامة وبرك المجاري باتت جيرانا ثقيلة للخيام، تنشر الروائح والأمراض، وتسرق من الأطفال أبسط حق في بيئة آمنة.
هذا التقرير يرصد معاناة إنسانية تتفاقم بعيدا عن عدسات القصف، حيث يعيش آلاف النازحين بين خطرين متلازمين: نفايات بلا ترحيل، ومياه صرف بلا تصريف، في واقع يهدد صحتهم وكرامتهم ويكشف عمق الكارثة التي خلفتها الحرب.
جار ثقيل
لا يفصل خيمة أم محمد الغرابلي في مخيم إيواء للنازحين غرب مدينة غزة، عن جبل من النفايات سوى بضعة أمتار. أكياس ممزقة، بقايا طعام فاسد، حفاضات أطفال، وقطع بلاستيك محترقة، كلها تراكمت على مدار أسابيع دون أن تجد من يزيلها أو يرحلها إلى أماكن تجمع النفايات.
تقول الغرابلي لصحيفة "فلسطين" وهي أم لخمسة أطفال نزحت من بيتها المدمر في جباليا: "في البداية كنا نجمع القمامة في أكياس ونبعدها عن الخيمة، لكن مع الوقت لم يعد هناك مكان نضعها فيه".
تحولت النفايات إلى جزء من المشهد اليومي، ومع ارتفاع درجات الحرارة بدأت الروائح الكريهة تخنق المكان، وجذبت أسراب الذباب والحشرات، فيما انتشرت الفئران بين الخيام. تصف أم محمد لياليها بأنها "معركة مفتوحة" مع الحشرات، تحاول خلالها حماية أطفالها من اللدغات والأمراض، مستخدمة وسائل بدائية كإشعال قطع كرتون أو بلاستيك لطرد الذباب، رغم علمها بخطورة الدخان.
الأطفال، الذين يفترض أن يجدوا مساحة آمنة للعب، صاروا يلعبون قرب أكوام النفايات، غير مدركين للمخاطر الصحية. تقول أم محمد إن طفلها الأصغر أصيب بإسهال حاد أكثر من مرة، وتعتقد أن السبب يعود إلى التلوث المحيط بهم، لكن لا قدرة لها على الذهاب إلى مستشفى بعيد أو شراء أدوية غير متوفرة أصلا.
غياب آليات البلديات ووقودها، وتدمير مكبات النفايات والطرق المؤدية إليها، جعل من جمع القمامة أمرا شبه مستحيل. ومع كل يوم يمر، تتسع أكوام النفايات وتزداد معها مخاوف النازحين من تفشي أمراض جلدية وتنفسية، في وقت باتت فيه النظافة ترفا، والحياة بين القمامة واقعا قاسيا فرضته الحرب.
خطر صامت بين الخيام
في مخيم آخر للنازحين غرب مدينة غزة، لا يوقظ الناس صباحهم على صوت الطائرات فقط، بل على رائحة مياه الصرف الصحي الراكدة بين الخيام. بعد تدمير شبكات الصرف الصحي خلال الحرب، تحولت المياه العادمة إلى برك آسنة تحاصر الخيام من كل جانب.
يقول أحمد يونس وهو نازح من بيت لاهيا لصحيفة "فلسطين": "كنا نهرب من القصف، فوجدنا أنفسنا نعيش وسط المجاري".
أمام خيمته، تمتد بركة داكنة اللون، تختلط فيها مياه الصرف بمخلفات الاستخدام اليومي. يحاول يونس حفر قنوات صغيرة بيده لتصريف المياه بعيدا عن مكان نوم أطفاله، لكن المحاولة تفشل في كل مرة بسبب امتلاء الأرض بالمياه. ومع كل خطوة، يغوص الناس في الوحل الملوث، ما تسبب بإصابات جلدية وحساسية، خاصة بين الأطفال وكبار السن.
تروي زوجته أن طفلتهما أصيبت بطفح جلدي حاد، ولم تجد علاجا سوى الماء القليل والصابون، في ظل نقص الأدوية. "نخاف أن تنتشر أمراض أخطر، لكن لا أحد يسمع"، تقول بحسرة. في الليل، تتضاعف المعاناة، إذ تعكس البرك أصوات البعوض، ويضطر الناس لإغلاق الخيام بإحكام رغم الحر، هربا من الحشرات.
تدمير محطات الضخ ومنع إدخال الوقود وقطع الغيار، جعل البلديات عاجزة عن تشغيل ما تبقى من شبكات الصرف الصحي. ومع غياب الحلول، باتت مياه المجاري تهديدا يوميا صامتا، يتسلل إلى حياة النازحين ببطء. بالنسبة لأبي أحمد، لم تعد الكارثة فقط في فقدان البيت، بل في العيش وسط بيئة ملوثة تهدد صحة أطفاله ومستقبلهم، دون أفق واضح للخلاص.
وقالت بلديات محافظة شمال غزة، اليوم السبت، إنها تواجه تحديات خطيرة تتمثل في عدم توفر وقود كاف لتشغيل آبار المياه وشبكات الصرف الصحي.
وأضافت البلديات في بيان أن من بين تحديات عدم توفر مواد الصيانة وأنابيب المياه والصرف الصحي، وتكدس آلاف الأطنان من النفايات الصلبة ما أدى لانتشار الأمراض.
وأشارت إلى أن الاحتلال حول شمال غزة إلى منطقة منكوبة مع منع وصول الماء والوقود وقطع الغيار ومواد إعادة الإعمار إلى المحافظة.
وأكدت تدمير أكثر من 150 كيلومتر من الطرق و70 بئر مياه رئيسي، مطالبةً بتوفير قطع الغيار والمواد اللازمة لصيانة شبكات المياه والصرف الصحي.
وطالبت بإدخال مواد الإعمار اللازمة لإصلاح الآبار والمضخات بما يسمح بانهاء المعاناة الانسانية، ويخفف من حجم الكارثة.