قائمة الموقع

"الحادثة لا تغادرنا".. عائلة إياد بين الوجع والبقاء المؤلم

2025-12-27T07:36:00+02:00
أهالي غزة يودعون أبناءهم الشهداء الذين ارتقوا في قصف الاحتلال على غزة
فلسطين أون لاين

في أحد أزقة مخيم المغازي وسط قطاع غزة، يجلس إياد شناعة، رجل خمسيني، بصمتٍ ثقيل يختزن في داخله ما لا تطيقه القلوب. يحدّق في الفراغ، ويقلّب بين حين وآخر في هاتفه صورًا قديمة لعائلته، التُقطت قبل أن تعصف الحرب بكل شيء.

يقول إياد: "من أول يوم في الحرب طلبت من زوجتي أن تخرج من البيت مع أولادنا، لم أكن أريد أن يصيبهم أي أذى. ظننا أن خان يونس ستكون أكثر أمانًا، لكن للأسف، الأمان في غزة كذبة كبيرة".

نزحت زوجته برفقة ابنتيه ضحى (21 عامًا) وسجى (17 عامًا) وابنه إلى منزل شقيقتها، لكن في العشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2023، باغتتهم طائرات الاحتلال بقصفٍ مباشر دمّر المكان بالكامل.

"اتصل بي ابني وهو يصرخ: بابا، إحنا انقصفنا، تعال بسرعة!"، يروي إياد، مضيفًا أنه حتى اليوم لا يدري كيف قطع المسافات. وعندما وصل، كان كل شيء غارقًا في الفوضى والدم. بحث عنهم في كل زاوية، وفي غرف الطوارئ، وبين قوائم المصابين.

أُصيب ابنه بجروح طفيفة، غير أن المشهد الحقيقي للوجع كان بانتظاره في ممرات المستشفى؛ إذ كانت زوجته تعاني من كسر في يدها، زُرع لها لاحقًا بلاتين، إضافة إلى شظية في بطنها استدعت استئصال المرارة والطحال، وكانت بالكاد تقوى على الكلام.

أما ابنته الكبرى ضحى، فقد أُصيبت بكسر في العمود الفقري وكدمة في النخاع الشوكي، ما أدى إلى شلل في الأطراف السفلية. ورغم العمليات الجراحية وجلسات العلاج الطبيعي، لا تزال مؤشرات التحسن ضعيفة.

وتبقى إصابة سجى الأقسى. يقول إياد: "حاولوا إنقاذ قدمها، لكن لم يكن هناك حل… بُترت بالكامل القدم اليسرى".

بصوتٍ مختنق يتساءل: "كيف أقنع فتاةً في عمرها أن قدمها ذهبت؟ كيف أطمئن ضحى بأنها ستتمكن من المشي مجددًا؟ وكيف أواسي زوجة تموت ألف مرة كل يوم؟".

وتقول والدة ضحى وسجى: "القصف طال طرف المنزل، ولو تأخرنا ثواني لكنا تحت الركام، وكنا اليوم من عداد الشهداء. الله كتب لنا عمرًا جديدًا، لكن وجعنا اليومي لا يوصف".

ويضيف إياد بصوت يتهدّج: "لا أحب أن أتذكر ذلك اليوم، المشهد أكبر من قدرتي على الاحتمال، والوجع لم يفارقني. وما يزيد الألم أن المصابين يُخرجون من المستشفى بعد أي عملية بيوم واحد فقط، ليس لأنهم تعافوا، بل لعدم توفر الأسرّة. الوضع مأساوي والمستشفيات فوق طاقتها".

يتابع: "أصبحت الممرض والطبيب في آنٍ واحد. أتعلم كيف أغيّر الضمادات، وكيف أتعامل مع الألم، وكيف أخفي دموعي عن بناتي، وأنا أراهنّ يكابرن على وجعهن. كل يوم يمر علينا كأنه سنة، وكل لحظة أعجز فيها عن التخفيف من ألمهن تمزقني".

وتعيش الشقيقتان، ضحى وسجى، وجعًا يتجاوز الجسد إلى أعماق النفس. فضحى، التي كانت تطمح لاستكمال دراستها الجامعية، توقفت حياتها عند حدود الإصابة، ولم تتمكن من العودة إلى مقاعد الجامعة، إذ بات يومها حافلًا بجلسات العلاج الطبيعي والانتظار الطويل لأي تحسن. ولا تزال تستخدم الحفاضات الطبية بعد فقدان الإحساس في أطرافها السفلية، ما يضاعف من معاناتها النفسية ويجعل تقبّل واقعها أمرًا بالغ الصعوبة.

أما سجى، التي فقدت قدمها اليسرى، فقد حاول والدها انتشالها من صدمة الإصابة، وتشجيعها على العودة إلى الحياة واستكمال دراستها الثانوية العامة، إلا أن جرح الروح كان أعمق من أن يندمل بسهولة، ولا تزال، رغم محاولاتها اليومية، تصارع تقبّل واقعها الجديد.

يقول والدهما: "ضحى كانت دائمًا من المتفوقات، وسجى تحب الحركة والحياة. اليوم تعيش بناتي بين أربعة جدران من الصمت، لا يستطعن تقبّل أنفسهن ولا التعايش مع ما حدث، وقلبي لا يحتمل رؤيتهنّ هكذا".

ورغم كل ما مرّ به، لا يزال إياد متمسكًا بخيطٍ رفيع من الأمل، بأن تتمكن ابنتاه من استكمال علاجهما، سواء داخل مستشفيات القطاع أو خارجها، والعودة يومًا ما إلى حياةٍ طبيعية، بلا ألم ولا خوف.

اخبار ذات صلة