لم يكن ملف رواتب أسر الشهداء والأسرى والجرحى في أي مرحلة مسألة مالية محضة، بل كان دائما تعبيرا عن معنى أعمق، عن عقد أخلاقي وسياسي واجتماعي، تشكل مع انطلاق الثورة الفلسطينية، مفاده أن من يدفع الثمن أعلى لا يترك وحيدا، وأن التضحية لا تتحول لاحقا إلى عبء على أهلها، لذلك فإن قطع هذه الرواتب أو تفريغها من مضمونها لا يمكن قراءته كإجراء إداري أو إصلاح تقشفي، بل هو فعل سياسي يعيد تعريف العلاقة بين السلطة والذاكرة، وبين الحاضر ومسار طويل من التضحيات.
الثورة الفلسطينية قامت على أكتاف الشهداء والأسرى، ليس بوصفهم وقودًا لها فقط، بل بوصفهم أساس الشرعية، وعبرهم صيغت سردية التحرر، وبهم اكتسبت المؤسسات تمثيلا ومعنى، وبتضحياتهم أوصلت صوتها للعالم، وحين تعهدت المنظمة - ثم السلطة لاحقا - برعاية أسرهم، لم يكن ذلك صدقة ولا امتيازا، بل ترجمة عملية لفكرة أن النضال له كلفة جماعية، وأن المجتمع يتحملها، لا العائلات وحدها.
مع الزمن تبدلت اللغة السياسية، المنظمة نبذت ما سمي بالإرهاب، وعدلت الميثاق الوطني عام 1996 الذي قام في نسختيه الأولى والثانية على الكفاح المسلح، وبالتالي فقد كان هذا التحول متوقعا في سياق ضغوط دولية وإقليمية ومسار طويل من التنازلات، لكن المتوقع سياسيا لا يصبح – تلقائيا - مشروعا أخلاقيا، فالسؤال لم يكن يوما هل يحق لها تغيير خطابها، بل أين تقف حدود هذا التغيير؟ ومن يدفع ثمنه؟
السلطة حاولت سابقا إدارة جزء من الملف عبر التوظيف والدمج، خصوصا للأسرى السابقين، وغالبها تمت ضمن اشتراطات أمنية، وبهذا المعنى أُخرج قطاع واسع من الأسرى من دائرة الإعالة المباشرة، لكن هذا الحل لا سبيل لتطبيقه على أسر الشهداء، فالشهيد لا يمكن إعادة توظيفه، والأسرة لا تملك خيارا لتعويض الغياب، وهنا تكمن قسوة القرار، لأنه يعالج ما يمكن احتواؤه إداريا، ويترك من لا يمكن احتواؤه فريسة للفقر أو لفحص الاحتياج الذي قد يتحول إلى أداة ضبط وابتزاز.
قطع الرواتب أو تحويلها إلى مساعدات اجتماعية "محايدة" يعيد تعريف التضحية نفسها، فالأسير يصبح حالة فقر، والشهيد ملف رعاية اجتماعية، والجريح رقم في جدول، هذا ليس إصلاحا ماليا بل إعادة صياغة للذاكرة، فالاحتلال يدرك ذلك جيدا، وعليه فإن الضغط المتواصل على هذا الملف لم يكن يوما بدافع الحرص على النزاهة المالية، أو الإصلاح، بل بهدف تفكيك المعنى وتحويل الثورة إلى إدارة خدمات مشروطة، فالاحتلال فشل في كسر الإرادة بالسلاح وحده، فانتقل إلى الاقتصاد، ثم إلى الخبز، ثم إلى محاولة جعل التضحية مكلفة، حتى بعد الموت.
المسألة لا تتوقف عند الرواتب، فما يجري يرسم حدود المقبول سياسيا، فاليوم يطلب إعادة هيكلة المخصصات، وغدا سيطلب إعادة تعريف الشهيد والأسير والجريح، وبعدها المناهج والذاكرة، وحتى الفضاء العام، وكل تنازل سيخلق سقفا جديدا أدنى من سابقه، وكل صمت سيفتح الباب لمطلب أشد، وهكذا تماما تعمل المنظومات الاستعمارية، فهي لا تكتفي بالهيمنة، بل تعيد تشكيل علاقتك بتاريخك وشهدائك حتى تفقد البوصلة.
سياسيا، هذا المسار يعمق أزمة الشرعية، فئات واسعة ستشعر أن السلطة تتخلى عن أحد أعمدة المشروع الوطني، بينما تبقي على التزامات أمنية وإدارية لا توفر حماية ولا أفقا، والنتيجة المتوقعة مزيد من التفكك، وصعود شبكات بديلة للرعاية خارج المؤسسات الوطنية، بما يحمله ذلك من أخطار زبائنية وفصائلية واجتماعية.
الحلول ليست مستحيلة إذا توافرت الإرادة، أولها ان تكون منفصلة عن الابتزاز السياسي، بحيث لا يبقى الملف رهينة مزاج صانع الموازنة، أو شروط المانحين، فيمكن اعتماد معايير العدالة الاجتماعية التي يطالب الجميع بها لتجنب الظلم بين العائلات، ولكن دون مسخ المعنى، بحيث يبقى الحق ثابتا والتفاوت في الزيادات والخدمات، لا في أصل الاستحقاق، ومواجهة الأزمة سياسيا وقانونيا، لا الاستسلام لها، فالاقتطاعات ليست قدرا يحول الفلسطيني إلى من يعاقب نفسه بنفسه، والأهم إعادة الاعتراف بأن هذا الملف ليس عبئا، بل جزءًا من تعريفنا لأنفسنا، بل من سردية وطنية يجب الحفاظ عليها وتحصينها ضد الابتزاز.
والسؤال الأخير يبقى الأكثر خطورة: هل نترك أسر الشهداء فريسة للفقر والجوع والابتزاز؟ إذا حدث ذلك فلن تكون المسألة مالية ولا اجتماعية فقط، بل لحظة كسر في الوعي الجمعي، ولحظة تتحول فيها التضحية إلى عقوبة، ويغدو الشهيد أو الأسير أو الجريح سببا لإفقار أهله وإذلالهم، بعد أن كان مصدر فخرهم، وعندها لا نخسر رواتب فقط، بل نخسر المعنى الذي قامت عليه القضية كلها، وهو انتحار بطيء، فحين تموت الذاكرة، لا تعود الرواتب ولا الأوطان.

