تتجدد معاناة آلاف النازحين ممن يعيشون بين أنقاض البيوت المدمرة أو في خيام مهترئة لا تصلح للحياة الآدمية في فصل الشتاء وخصوصاً مع كل منخفض جوي يضرب قطاع غزة. فبعد مرور عامين على حرب الإبادة التي خلّفت دماراً واسعاً في الأحياء السكنية، بات الشتاء عاملًا إضافيًا يفاقم الألم، ويحوّل رحلة النزوح إلى صراع يومي مع البرد والمطر والخوف من الموت.
تبدو آثار الحرب واضحة على كل زاوية من أزقة وشوارع القطاع. منازل مدمرة جزئيًا، جدران متشققة، وأسقف مهددة بالانهيار في أي لحظة.
في حي الشيخ رضوان شمال غرب مدينة غزة يعيش المواطن يوسف سرور مع ست عائلات أخرى داخل منزل واحد، أقل عائلة فيه تضم أربعة أفراد، معظمهم من الأطفال. يقول سرور لمراسل صحيفة "فلسطين": "إن ما خلّفته الحرب ليس مجرد دمار في الحجر، بل خطر دائم يهدد حياة السكان".
ويضيف: "الاحتلال تركنا في أماكن لا تصلح للسكن ولا للحياة الآدمية، كل بيوتنا آيلة للسقوط، نصف المنزل منهار والنصف الآخر قد يسقط مع أي منخفض جوي، غير البرد القارس الذي نعاني منه نحن وأطفالنا".
ويستصرخ سرور كل المؤسسات الدولية والمحلية بأن يتم إعادة إعمار قطاع غزة، ويتزامن مع ذلك إدخال الكرفانات المؤقتة، قائلاً: "لم نعد قادرين على تدفئة أطفالنا أو توفير حياة كريمة لهم".
يوسف، كغيره من آلاف المواطنين، يجد نفسه عاجزًا عن توفير أبسط مقومات الحياة لأطفاله. فالتدفئة شبه معدومة، والبرد يتسلل إلى أجساد الصغار في ليالي الشتاء الطويلة.
المشهد لا يختلف كثيرًا عند الشاب عدي المدهون (26 عامًا)، الذي يسكن أيضًا في حي الشيخ رضوان. منزله تعرّض للقصف خلال العدوان الأخير وأصبح آيلًا للسقوط، ما جعل حياته وحياة أسرته معلقة بخيط رفيع.
يصف المدهون واقع عائلته في البيت بأنه "خطر شديد"، خاصة مع فصل الشتاء والمنخفضات الجوية التي قد تتسبب بانهيار المنزل في أي لحظة.
ويقول لمراسل "فلسطين": "نعيش في ظروف قاسية داخل هذا المنزل المهدد، ونطالب بإدخال الكرفانات للعيش بظروف أفضل، على الأقل تعيد لنا جزءًا من كرامتنا المسلوبة". واستحضر الفاجعة التي منزل جيرانهم من عائلة لبد حين انهار المنزل على رؤوسهم وادى لارتقاء خمسة شهداء.
أما في مراكز الإيواء، فالمعاناة لا تقل قسوة. المواطن مهدي صالح (63 عامًا) يعيش مع أسرته المكونة من أربعة أفراد داخل خيمة في أحد مراكز الإيواء التي أُنشئت في منطقة المقوسي غربي مدينة غزة.
ويؤكد صالح أنه خلال المنخفضات الجوية الأخيرة، غرقت الخيمة بالكامل بعد اقتحام مياه الأمطار لها، ما أدى إلى تلف الفرشات والأغطية، إضافة إلى اقتلاع الخيمة من مكانها وتطايرها بفعل الرياح.
ويقول صالح لـ "فلسطين"، إن الخيمة التي يعيش فيها مهترئة ولا تصلح للحياة الآدمية، مؤكدًا أن العائلة سئمت من تكرار النزوح والسكن في خيام لا توفر الأمان ولا الدفء.
ويضيف بحرقة: "يكفينا نزوحًا، تعبنا من كثرة التنقل والعيش في خيام، نناشد بإدخال الكرفانات كحل مؤقت لإيواء عائلاتنا إلى حين إعادة الإعمار الكامل، وهو مطلب أساسي بعد هذا الدمار الذي حلّ بنا بفعل حرب الإبادة التي لم تفرق بين الحجر والبشر والشجر".
جريمة إنسانية
من جهته، وصف مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، إسماعيل الثوابتة، استمرار الاحتلال الإسرائيلي في منع إدخال الخيام والكرفانات والبيوت المتنقلة إلى قطاع غزة بأنه "جريمة إنسانية مكتملة الأركان وانتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني"، محذرًا من تداعيات كارثية تطال حياة مئات الآلاف من المواطنين الذين يعيشون دون مأوى في ظل البرد القارس والأمطار.
وأكد الثوابتة في حديث خاص لصحيفة "فلسطين"، أن اتفاقيات جنيف تُلزم قوة الاحتلال بضمان الحد الأدنى من المأوى للسكان الواقعين تحت الاحتلال، إلا أن الاحتلال يواصل تجاهل هذه الالتزامات القانونية بشكل متعمد.
وأوضح الثوابتة أن الخيام لم تعد حلًا كافيًا أو إنسانيًا في ظل الظروف الجوية القاسية وحجم الدمار الواسع الذي طال المنازل، مشيرًا إلى أن الاحتلال لا يكتفي بمنع إدخال الكرفانات والبيوت المتنقلة، بل يقيّد حتى إدخال الخيام نفسها، في سياسة واضحة تهدف إلى تعميق معاناة المواطنين وفرض ظروف حياة قسرية وغير قابلة للبقاء.
وأكد أن المطلب اليوم لم يعد الاكتفاء بخيام مؤقتة، بل إدخال الكرفانات والبيوت المتنقلة كحل إنساني عاجل يوفّر الحد الأدنى من الكرامة والحماية للنازحين، ويخفف من حجم الكارثة الإنسانية المتفاقمة في القطاع.
وحول انعكاسات هذا المنع، قال الثوابتة إن تداعياته كارثية ومباشرة على حياة المواطنين، حيث يتعرض مئات الآلاف للبرد الشديد والأمطار والرياح دون أي حماية، ما أدى إلى تفاقم الأمراض، خاصة بين الأطفال وكبار السن والمرضى، إضافة إلى انهيار الخصوصية والكرامة الإنسانية للعائلات النازحة.
وأشار إلى أن هذه الظروف أسهمت في ارتفاع معدلات الوفيات المباشرة وغير المباشرة نتيجة الأوضاع المعيشية القاسية، فضلًا عن تعميق الأزمة النفسية والاجتماعية بين النازحين، مؤكدًا أن حرمان المواطنين من المأوى يُستخدم كأداة عقاب جماعي ممنهجة بحق السكان المدنيين.
وفيما يتعلق بحجم الاحتياج، كشف الثوابتة أن التقارير الرسمية تشير إلى أن نحو مليون ونصف المليون إنسان في قطاع غزة يعيشون حاليًا دون مأوى نتيجة التدمير الواسع الذي لحق بالمنازل، موضحًا أن هؤلاء يحتاجون بشكل عاجل إلى ما يقارب 288 ألف كرفان وبيت متنقل كحد أدنى لتوفير مأوى إنساني مؤقت يحميهم من العوامل الجوية، ويشكل بديلًا واقعيًا للخيام التي لم تعد صالحة أو كافية للاستجابة لحجم الكارثة.
وشدد الثوابتة على أن المطلوب بشكل واضح ومباشر هو ممارسة ضغط فوري وفعّال على الاحتلال لإدخال الكرفانات والبيوت المتنقلة دون قيد أو شرط، ووقف تسييس المساعدات الإنسانية وربطها باعتبارات أمنية أو سياسية، إلى جانب إلزام الاحتلال بتعهداته القانونية كقوة احتلال.