فلسطين أون لاين

آلاء.. نجت من الموت ولم تنجُ من الفقد

...
صورة أرشيفية خلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة
غزة/ هدى الدلو

في البيت الذي شهد بدايات حياتها الزوجية، وأولى خطوات أطفالها الأربعة، وعلّقت جدرانه ضحكاتهم لسنوات، تقف آلاء نور الدين الدريملي (39 عامًا) أمام ذاكرة لم يبقَ منها سوى الصور. هذا البيت، الذي كان يعجّ بالحياة والمناسبات العائلية، انتهى بيوم استشهادهم. ورغم تصاعد القصف واقتراب الخطر، ووسط ضغوط احتلالية متواصلة للنزوح جنوبًا، اختارت آلاء البقاء، متمسكة بالمكان الذي احتضن عمرها كله.

"ما بقدر أترك البيت، هذا مأوانا، وروحنا معلّقة فيه"، قالتها بإصرار، لكنها لم تكن تعلم أن يوم 7 مايو 2024، سيكون الأقسى في عمرها.

تسرد آلاء لـ "فلسطين أون لاين" أنها في تلك الليلة، اختارت قلبها بدل راحتها… خرجت من غرفتها لتنام بجانب أبنائها الأربعة في غرفة واحدة، علّها تخفف عن صغيرها عمر الذي اشتدت عليه نزلة البرد، فقد كان يئن من الألم، يعاني من إسهال واستفراغ متكرر، بينما تحاول والدته تهدئته وتطمينه بين يديها.

"ما قدرت أتركه لحاله… كنت حاسة إنه تعبان، وقررت أنام معهم كلهم، بدي أكون قريبة منهم"، تتابع حديثها.

احتضنت أبناءها عٓمر (14 عامًا)، عبد العزيز (12 عامًا)، نورا (6 أعوام)، ومحمد، طفلها الرضيع الذي لم يُكمل ستة أشهر بعد، كانوا جميعًا ينامون بجوار بعضهم، وآلاء تهمس لهم بالدعاء أن تمرّ الليلة بسلام، بينما يشتد القصف بالخارج وتتعالى أصوات الطائرات في السماء.

لكن لم يكن أحد يتوقع أن تلك الليلة ستكون الأخيرة التي تجمعهم جميعًا.

وفي الساعة الرابعة إلا ثلثًا… كانت لحظةً فاصلة بين الحياة والموت، تضيف آلاء: "استهدف صاروخ إسرائيلي بيتي، وبعدها ما كنت واعية، كنت بنام وبفيق، وكنت أسمع أصوات حواليا بيحاولوا يصحوني… بس جسمي كان عاجز، ما قدرت أتحرك، ما قدرت أرد".

كل شيء كان مشوشًا أمامها دخان، وصراخ، وأنين، وفي لحظةٍ، ساد الصمت نادى أحدهم: "آلاء.. آلاء!" لكنها لم تجب، ساد الاعتقاد بأنها استشهدت، اختنق المكان برائحة الموت، وبالظلام والركام.

وفجأة، ارتفع من بين الرماد صوت ضعيف… همسة حياة، "رفعت إيدي بصعوبة… كنت بحاول أقول إني لسا عايشة"، تقول آلاء يختنق بالدموع، عندها فقط أدرك من حولها أنها ما زالت تقاتل للبقاء، رغم كل ما فقدته من بيتها وزوجها واثنين من أبنائها.

كانت تلك الرفعة البسيطة ليدها هي الفرق بين دفنها مع أطفالها، أو البقاء شاهدة على ما جرى، اليوم آلاء لا تنسى تلك اللحظة، وتردد:  "رفعت إيدي… بس قلبي ظل تحت الركام معهم".

نقلت آلاء إلى مستشفى كمال عدوان، وهناك بدأت رحلة العلاج والألم. خمس ليالٍ قضتها على سرير في قسم الجراحة، وسط ازدحام الجرحى وشح الأدوية ونقص الكوادر، لكن ما كان ينتظرها لم يكن فقط الصدمة الجسدية.

في اليوم الخامس، اقتحم جيش الاحتلال المستشفى، "كنا بنسمع صوت الرصاص قريب، الكل كان يركض، الأطباء، الجرحى، ما حدا فهم شو بصير"، تقول آلاء.

وهي في حالتها الحرجة، غير قادرة على تحريك جسدها، اضطر طاقم المستشفى لحملها على شيالة المرضى، ونقلها في مشهد يفتقر لأبسط مقومات الإنسانية.

لم يخبرها أحد في البداية بما حدث. كان الجميع يخشى أن تنهار، فجرحها الجسدي كان لا يُقارن بوجع الفقد الذي كان ينتظرها. ظنّت أن أبناءها وزوجها في مكانٍ آخر، بخير، وأنها ستراهم قريبًا. لكن الحقيقة كانت أقسى من أن تُقال دفعة واحدة.

فقدت آلاء زوجها، رفيق عمرها، وسندها في مواجهة الحياة. وفقدت ابنتها الصغيرة "نورا" ذات الست سنوات، وضحكة بيتها، ورضيعها محمد الذي لم يُكمل بعد شهره السادس.

ولم يكن الموت وحده ما زار تلك الغرفة، فعبد العزيز، ذو الـ12 عاماً، احترقت قدماه ووجهه، لا تزال آثار الحروق تذكره كل صباح بأنه خرج من بين النار. وعمر، الأكبر، أصيبت أذنه، وتأثر سمعه، وترك الانفجار أثره ليس فقط على حواسه، بل على روحه أيضًا.

"كيف بعيش بعدهم؟ كيف بكمل الطريق وأنا بالكاد استطيع المشي؟" بهذه الكلمات التي يملؤها الانكسار، حاولت آلاء أن تفهم ما لا يُفهم.

لم تستوعب في البداية أن إصابتها في الظهر كانت بالغة. لم يخبرها الأطباء بشكل مباشر، لكن مع مرور الأيام، بدأت تُدرك الحقيقة المُرّة أنها لن تستطيع المشي مجددًا.

وتصف آلاء معاناتها خلال فترة النزوح بكلمات تخترق القلب: "كنت أتنقل على شيّالة يحملني الشباب، يربطوني حتى ما أوقع، ويشدوا كل قوتهم عشان يقدروا ينقلوني من مكان لمكان، وكل خطوة كانت وجع، وكل نقلة كأنها نار بجسمي، عدا عن التعرض للقنص من الجنود أثناء التنقل".

وبعد ثلاثة أشهر من الإصابة، أجريت لآلاء عملية جراحية طال انتظارها، متابعة حديثها: "كنت أحسب الأيام والليالي، كل يوم بيمر كأنه سنة، وكل دقيقة فيها رجاء أن أرجع أقدر أقف على رجليا".

بعد عشرة أيام من العملية، بدأت أولى حركاتها الخفيفة، تصفها وكأنها ولادة من جديد: "أول ما حسيت برجلي تتحرك شوي، بكيت... مش من الوجع، من الفرحة، من إن في أمل، حتى لو بسيط".

وبعد ثلاثة أسابيع، جلست لأول مرة: "كانت جلسة كلها وجع، بس بنفس الوقت كلها انتصار، ما كنت أتخيل إني أرجع أقعد لحالي، بدون مساعدة".

واليوم، تقف آلاء على قدميها مجددًا، وإن كانت المشقة لا تفارقها: "الحمد لله... بوقف لحالي، بخطوات بسيطة وببطء، بس كل خطوة هي معركة انتصرت فيها على الوجع، على العجز، على القهر".

وتشير إلى أن فترة العلاج صعبة، الوجع فيها فوق المحتمل، "كل حركة أو لمسة كأنها سكاكين بجسمي، بس شو بقدر أقول؟ بدي أتحمل... بس الأصعب من كل هاد، إنو الأيام تمر وأنا لحالي، دون زوجي اللي كان سندي وضهري، ودون محمد ونورا اللي كانوا روحي وضحكتي".

وتختم آلاء حديثها: "أنا مش بس مجروحة بجسمي، أنا مجروحة بقلبي، بنفسي، بروحي، الفقد هو الوجع الحقيقي اللي ما إله علاج، وما بطيب مهما مر وقت... كل يوم بصحى وبدور على صوتهم، ضحكتهم، ريحتهم، بس ما بلاقي غير الصمت والغياب".

المصدر / فلسطين أون لاين