فلسطين أون لاين

"قصة قصيرة من واقع السجون"

جولة تحقيق مع الطبيب الحر حسام أبو صفيّة

– إنت خِلقة واحد سافل منحطّ، إرهاب مخرب قذر، أنت لا قيمة لك ولا وزن، أنت مجرّد حيوان تافه، أنت، أنت، أنت.

واستمرّ في سلسلة من الشتائم تبدو لا نهاية لها، وكان الطبيب حسام أبو صفيّة مقابله يلتزم الصمت، تدور في خلده أفكار وتحليلات: ماذا يريد؟ هل يريد ضرب ثقتي في نفسي، وهدم ما ترسّخ في أعماقي من مبادئ ومعنويات ومشاعر؟ يسمعني من كلمات التقريع والتبكيت والمسبّات والشتائم ما لم أسمعه في حياتي، ولم أتخيّل أن أسمعه من بشر في يوم من الايام. يريد أن يوهن عزائمي بعد أن فشلوا في كل أشكال التعذيب الجسدي التي لم يقصّروا فيها أبدًا.

– أمّك لو أنجبت فأرًا لكان نافعًا للحياة، خيرًا منك.

انتفض الدكتور من أعماقه، وانطلق لسانه من عقاله محطّمًا جدار الصمت:

– أنا طبيب، أعالج بعض نتائج جرائمكم التي لا حدود لها. كلّ مسبّاتك هذه لا تليق إلا بصاحبها.

– أنت طبيب؟ أنت مخرّب في لباس طبيب، تعالج مخربين مجرمين مثلك. اعترف أنك مخرّب، من نظّمك؟ ولأي تنظيم إرهابي تنتمي؟

– نعم، أنتمي للحركة الصحيّة في البلاد.

– ادّعِ كما تريد، لكن حتى تنتهي من هذا العذاب لا بدّ من الاعتراف: أنت عالجت مجموعة من الأسرى الإسرائيليين.

– أنا مهمّتي إنسانية، ولا أنظر في جنسية المريض. لو قدّر لي معالجتكم مما أنتم فيه لفعلت.

– ما نحن فيه؟ هل تعتقد أننا مرضى؟

– وهل ترى إنسانًا يخرج منه كل هذه الشتائم على أسير لا حول له ولا قوّة، معافى سليم؟ هل ترى أن دولة تهاجم مستشفيات بالصواريخ وتقوم بحرب إبادة جماعية معافاة وسليمة؟ أنتم تعانون من مرض عضال يصعب الشفاء منه.

– وهل تعتقد أن الذين فعلوا مذبحة السابع من أكتوبر أصحّاء مثلًا؟

– وهل من احتلّ فلسطين سنة ثمانيةٍ وأربعين، ومارس الإبادة والتطهير العرقي على الشعب الفلسطيني، كان في صحّة نفسية وعافية إنسانية؟ ما جرى في السابع هو ردّ على مسلسل طويل من حرب الإبادة والتطهير.

وقف المحقّق وصفّق، ثم بدأ يصفع ضحيته بيديه الاثنتين، ينفّس عن غضبه وحقده، ثم نعق:

– كيف قبلت نفسي أن تحاور حيوانًا مثلك؟ يا لها من نفس متواضعة، طيبة، أخلاقنا عظيمة، نحن الأمّة الأعظم أخلاقًا في العالم! أنا أحاور إرهابيًا مخربًا مجرمًا قذرًا واطئًا منحطًّا...

وعاد إلى قاموسه من النابيات التي لا نهاية لها كمًّا ونوعًا.

اعتصر الألم طبيبنا، وكان على درجة من القهر والغضب لا يعلمها إلا الله. تمنى لو أن يديه متحرّرتان من هذا القيد اللعين؛ يداه، مع قيدهما إلى الخلف، مربوطتان بكرسيّ مثبت في الأرض. تمنى لو أنه قادر على استعمال ولو يد واحدة، لقام باللازم مهما كانت نتائجه، ولو كانت حياته، ولكنهم قد أحكموا وثاقه.

قرّر أن يلتزم الصمت، خاصة مع هذا الرعديد النزق. حاول معه مرارًا وتكرارًا، صفعه كثيرًا، وثرثر كثيرًا، دون أن تتحرّك شفتا طبيبنا.

انقضى اليوم بكثير من الضرب، وكثير من الشتم والسبّ، مع صمتٍ مطبق من قبل ضحية بدت نهاية الطريق أنها عملاقة منتصرة، وبدا ذاك المأفون قزمًا على هامش هذه الشخصية الفلسطينية العظيمة، بدا صرصارًا عابرًا يمرّ أمام أسدٍ مهيب لا يلقي له بالًا.

فقط أحببنا أن نصوّر لكم قصة جولة من جولات التحقيق مع طبيبنا الفذّ حسام أبو صفيّة.

لا يعقل أن يزجّ طبيب (يشكل نموذجا للفناء التام في خدمة جرحى العدوان) في هذا الجحيم، كل يوم بل كل دقيقة وثانية له في السجن، تشكل صفعة مدوية في جبين الإنسانية وفي جبيننا نحن الذين هم خارج السجون وباستطاعتهم أن يفعلوا شيئا ولا يفعلون.

المصدر / فلسطين أون لاين