في الثالث والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2023، قُصف البرج المقابل لبرج الصالحي في المخيم الجديد شمال النصيرات، حيث كانت تعيش عائلة وسيم تمراز.
يروي وسيم (19 عامًا)، الناجي الوحيد من مجزرة عائلته، تفاصيل اللحظات التي ما يزال يتجرّع مرارتها حتى اليوم.
يقول: "في تلك اللحظة دبّ الرعب في قلوبنا، فهربنا جميعًا؛ أنا ووالداي وإخوتي، وتركنا منزلنا متجهين إلى بيت عمي سمير، الواقع في الجهة المقابلة من الشارع، ظنًّا منا أنه أكثر أمانًا".
مرّ أسبوع كامل. وفي ذلك اليوم، كانت الساعة الثانية إلا ربعًا ظهرًا. يضيف وسيم: "كنت في ساحة البيت أساعد والدي في تعبئة المياه، في حين كانت والدتي تتابع أعمال التنظيف. ناديت أبي ليساعدني، وفجأة ألقت طائرة الاحتلال منشورات بالقرب منا. هرع ابنا عمي لاستكشاف الأمر. أردت اللحاق بهما، لكن والدي منعني أولًا طالبًا مني مساعدته في حمل دلو الماء، ثم تراجع بعد ثوانٍ وقال لي: (اطلع يا بابا وراهم)".
التقط وسيم أحد المنشورات، وكان مكتوبًا فيه: «أهل الشمال، أخلوا إلى جنوب الوادي». يقول: "شعرت بخفقان شديد، وتسارعت دقات قلبي. أدرت ظهري وعدت مسرعًا نحو البيت لأخبر من بداخله بضرورة الإخلاء. ما إن وصلت إلى باب المنزل، حتى اهتزّ المكان كله، كأنه بركان انفجر. غطاني الدخان، وتساقطت الحجارة فوقي".
ويستعيد تفاصيل يوم المجزرة قائلًا: "استيقظت عند الساعة التاسعة صباحًا. شربت الشاي وأنا في حالة ذهول، ثم ساعدت والديّ في تنظيف الغرفة بالماء. عند الساعة الثانية إلا ربعًا ظهرًا، اجتمعنا لتناول الغداء: أبي، وأمي، وإخوتي يوسف ومحمد، وأختي ريما. لم نكن نعلم أن ذلك سيكون غداءنا الأخير معًا".
لحظة الانفجار، كان وسيم يقف عند باب البيت. يقول: "رأيت الأشلاء تتطاير في الهواء، كأنها أهوال يوم القيامة. دُفنت تحت الرمال، ومن شدة الانفجار شعرت أنني أنا المستهدف. ناديت على أبي ليحملني، فقد كنت مصابًا ولا أستطيع الوقوف أو الحركة. تخيلته يسمعني ويهرع إليّ كما كان يفعل دائمًا".
لكن من وجده كان أحد ابني عمه، اللذين خرجا قبله للحصول على المنشورات.
"احتضنني أحدهما وطلب مني الخروج من المكان لخطورته، ظنًّا منه أنني أستطيع الحركة. أخبرني أنه سيعود لإخراج من في البيت… كانوا ثلاثة عشر فردًا، جميعهم تحت الأنقاض".
في تلك اللحظات، قُصف مربع كامل من الحي، وسقط الجيران بين شهيد وجريح، وامتلأ المكان بالأشلاء والدماء. لم تتمكن سيارات الإسعاف من الوصول بسبب كثافة الركام.
يحكي وسيم: "حملني بعض الجيران لمسافة طويلة، حتى وجدوا سيارة إسعاف كانت ممتلئة بالجثث. لم يكن هناك متسع لي. نظر إليّ ضابط الإسعاف، ثم قرر إنزال جثة ووضعها في مكان آخر، وقال: (أنت جريح، ويمكن إنقاذك)".
أُصيب وسيم في ظهره، ولم يستطع الحركة لثلاثة أشهر.
"كنت أسأل ابني عمي باستمرار: وين أهلي؟ ولم يكن هناك أي جواب".
في اليوم التالي للمجزرة، أصرّ على مغادرة المستشفى والعودة إلى البيت للبحث عن عائلته.
"حملوني على الأكتاف. بحثنا بين الركام، ولم نجد أي أثر لجثثهم. الجثة الوحيدة التي عثرنا عليها كانت جثة ابن عمي حسام… بلا رأس. عندها أيقنت أنني الناجي الوحيد من عائلتي".
حاولوا مرارًا العثور على أي رفات أو أشلاء، لكنها بدت وكأنها تبخرت. وحتى اليوم، لم تُرفع الأنقاض عن المكان.
"الشيء الوحيد الذي نجا كان مصحف والدتي، الذي كانت تُحفّظ فيه إخوتي القرآن، وتُعلّم به الطلبة مجانًا في المسجد".
ويختم وسيم روايته قائلًا: "عقلي استوعب أنهم استشهدوا وغادروا هذه الحياة، لكن قلبي حتى اليوم يرفض التصديق. ما زلت أتمنى أن أجد رفاتهم، أن أدفنهم بيدي، أن يكون لهم قبور أزورها كلما اشتقت إليهم. عقلي ما زال عالقًا عند سؤال واحد: وين هم؟ أنا ما شفتهم، أنا ما دفنتهم".
ويضيف: "أحلم أحيانًا أن يظهر أحدهم أمامي، فقط لأنني لم أرَ جثثهم. هذه المجزرة تركت داخلي صدمة عميقة، وصرت أكره الحياة بدونهم. لكن حلم والدي بأن يراني مهندسًا ناجحًا أعادني إلى الوقوف على قدمي. قررت أن أواصل الليل بالنهار لأحقق ما كان يتمناه لي".
ويختم بصوتٍ يختزل الفقد: "كنت دائمًا من المتفوقين، وبالفعل حصلت على معدل 96% في الثانوية العامة. اليوم أُنفّذ حلم والدي… رغم أن القلب فقد الشغف، وبقي السؤال".

