فلسطين أون لاين

مجزرة بحق عائلة ملكة

تقرير 71 شهيدًا وعائلتان مُسحتا من الوجود في غزة

...
لم ينج أي شخص من القصف الذي استهدف منزل عائلة ملكة في 16 نوفمبر 2023
غزة/ صفاء عاشور:

في غزة، ومع بداية حرب الإبادة، لم يكن الخوف يبدأ مع سقوط الصاروخ، بل قبل ذلك بكثير؛ يبدأ حين يطول الصمت، وحين يتغيّر لون السماء، وحين تتوقف الأمهات عن النوم نومًا عميقًا.

في الحرب الإسرائيلية التي مارست الإبادة الجماعية بحق سكان قطاع غزة، لم يعد الخوف حالة عابرة، بل تحوّل إلى أسلوب حياة، يقود قرارات الناس، ويدفعهم إلى ترك بيوتهم، والبحث عن أي مكان يظنّونه أقل خطرًا.

هكذا بدأت حكاية 71 إنسانًا من عائلة ملكة، قرروا الاجتماع في عمارة واحدة مكوّنة من ثلاثة طوابق في منطقة المصلبة بمدينة غزة. لم يكن قرارهم وليد طمأنينة، بل وليد رعب؛ فالقصف كان يقترب، والبيوت المتفرقة بدت مكشوفة، وكل شارع تحوّل إلى احتمال موت.

قالوا إن التجمّع قد يحميهم، وإن بيتًا واحدًا أفضل من عشرة بيوت، وسقفًا واحدًا أهون من انتظار المصير وحيدًا. أغلقوا منازلهم على عجل؛ بعضهم ترك الألعاب على الأرض، وكثيرون خرجوا دون أن يلتفتوا خلفهم، حملوا ما خفّ وزنه: بطانيات، هويات، أدوية أطفال، وقلوبًا مثقلة بالخوف.

يقول عبد القادر ملكة، ابن عم وأحد أقارب أفراد العائلة: “تجمّعت في العمارة عدة عائلات اضطرت قسرًا إلى ترك بيوتها بسبب الخطر الذي شعرت به. كان من بينها عائلتان من أبناء العمومة من عائلة ملكة، لم يجمعهما سوى رابط الدم والخوف المشترك”.

ويوضح لصحيفة "فلسطين" أن العائلة الأولى كانت تضم رائد عبد الفتاح مصطفى ملكة، وزوجته شيماء جبر أحمد أبو سرية، وأطفالهما: عبد الفتاح، ومعتز، وسوار.

أما العائلة الثانية، فكانت تضم عبد الله جمال مصطفى ملكة، وزوجته وردة صلاح مصطفى ملكة، وابنتهما ذات الست سنوات، إضافة إلى أفراد آخرين من العائلة، ليصل عدد المتجمعين إلى 71 فردًا.

ويشير عبد القادر إلى أنه في مساء السادس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وقبيل أذان المغرب بقليل، كانوا جميعًا داخل العمارة، يحلمون بأن تمر الليلة بسلام، ويدعون الله أن ينجيهم من صواريخ الاحتلال.

فالخوف من الاحتلال الإسرائيلي لم يكن وهمًا، بل خوفًا متراكمًا من بيوت قُصفت على أهلها، ومن عائلات مُسحت دفعة واحدة، ومن حرب لم تفرّق بين طفل ومقاتل. في غزة، كان الناس يشعرون أن الدور قد يأتي في أي لحظة، وأن النجاة باتت مسألة حظ، لا أكثر.

في تلك الليلة، كانت بعض النساء يُحضّرن ما تيسّر من طعام، وجلس بعض الرجال صامتين، بينما كان الأطفال ينتظرون. لم يكن هناك إنذار، ولم يكن هناك وقت.

صواريخ متتالية انهالت فوق بعضها، وكأن الاحتلال قرر أن يضع حدًا لكل هذا الخوف دفعة واحدة. نُسفت العمارة بالكامل، طابقًا فوق طابق، وانهارت بمن فيها.

لم يخرج صوت بعد الضربة، ولم تُسمع صرخة، وكأن الموت جاء كاملًا، بلا استثناء، في لحظة واحدة. دُفن 71 إنسانًا تحت الركام.

ومن بينهم عائلتا رائد وعبد الله ملكة، اللتان مُسحتا بالكامل من السجل المدني؛ لم ينجُ طفل يحمل الاسم، ولم تبقَ امرأة تحفظ الذاكرة. انتهت العائلتان كما لو أنهما لم تعيشا هنا يومًا.

ويقول عبد القادر: “بعد القصف، عاد الأقارب والجيران، فلم نجد عمارة، بل حفرة كبيرة، وحديدًا ملتويًا، وغبارًا كثيفًا”.

ويضيف: “نادينا الأسماء واحدًا واحدًا، كأن النداء قد يهزم الموت: رائد.. شيماء.. عبد الفتاح.. معتز.. سوار.. عبد الله.. وردة.. لكن لم يُجب أحد”.

لم تصل فرق إنقاذ؛ فالحرب كانت أكبر من الجميع. “كنا نحفر بأيدينا، نحاول إخراج أي شهيد، نحاول بقهرٍ لا يُحتمل”، يقول عبد القادر.

ويلفت إلى أنهم لم يتمكنوا من إخراج أي شهيد من تحت الركام حتى بدء الهدنة في منتصف كانون الثاني/يناير 2025، حيث تمكنوا آنذاك من انتشال 12 شهيدًا، وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي أخرجوا خمسة شهداء آخرين.

وينبّه عبد القادر إلى أنهم لم يتمكنوا من التعرّف على جميع جثامين الشهداء؛ فالملامح ضاعت، والأسماء اختلطت، وكان الدفن في مقبرة جماعية، بلا وداع وبلا شواهد.

اليوم، لا شيء يدل على أن هنا كانت عمارة، أو أن 71 إنسانًا عاشوا خوفهم الأخير في هذا المكان. لكن قصتهم تفضح حقيقة الحرب الإسرائيلية على غزة: حرب لا تكتفي بالقتل، بل تمارس الإبادة، وتمحو العائلات، وتترك الخوف حيًا في قلوب من تبقّى.

وفي غزة، لا يجتمع الناس لأنهم يريدون الموت، بل لأنهم يحاولون النجاة. وأفراد عائلة ملكة حاولوا أن ينجوا معًا… فماتوا معًا.

المصدر / فلسطين أون لاين