قائمة الموقع

تحالف أم نفوذ؟ قراءة تاريخية في الدور البريطاني داخل السياسة الأميركية (1917–2025)

2025-12-16T07:58:00+02:00
فلسطين أون لاين

على مدى قرن كامل، بدا المشهد السياسي العالمي وكأنه يتحرك تحت أضواء واشنطن، لكن خلف تلك الأضواء كانت هناك ظلال أعمق، تتحرك فيها بريطانيا بخفة لاعب قديم لا ينسى أسرار اللعبة. فالإمبراطورية التي هبطت أعلامها من المستعمرات لم تهبط فعلياً من التاريخ، بل أعادت ترتيب قوتها داخل الدولة الصاعدة الجديدة، الولايات المتحدة الأميركية. وبينما ظن العالم أن أميركا هي من تقود الغرب منذ 1917 وحتى اليوم، تكشف *الوثائق والمذكرات ومراكز القرار أن لندن، في الحقيقة، ظلت الحبر السري في نصوص السياسة الأميركية—حاضرة حيناً، وموجِّهة حيناً، وصامتة بخبث حيناً آخر*. هذه ليست قصة تحالف، بل قصة نفوذ طويل وصبور، عاش أطول من الرؤساء والأزمات والعهود.

و من يقرأ تاريخ القرن العشرين يظن أن الولايات المتحدة هي التي قادت الغرب وصنعت قراراته الكبرى، غير أن الوثائق والأرشيفات الرسمية تكشف قصة أخرى أكثر تعقيداً، تقول إن بريطانيا — الإمبراطورية التي تراجعت ظاهرياً — لم تغادر مسرح النفوذ العالمي يوماً، بل أعادت إنتاج قوتها داخل الدولة العظمى الجديدة، حتى بدت واشنطن أحياناً وكأنها تتحرك داخل مساحة رؤية وضعتها لندن منذ الحرب العالمية الأولى. ففي عام 1917، حين كانت الولايات المتحدة تتردد في دخول الحرب، لعبت بريطانيا لعبة الضغط الخفي ببراعة؛ إذ قامت استخباراتها بتسريب “برقية زيمرمان” التي تعهدت فيها ألمانيا بدعم المكسيك إذا هاجمت أميركا. هذا التسريب، الذي تحدثت عنه لاحقاً وثائق وزارة الخارجية البريطانية، لم يكن مجرد كشف استخباراتي، بل كان خطوة صُممت لتغيير توجه الرأي العام الأميركي وإجبار واشنطن على الدخول إلى الحرب إلى جانب بريطانيا. إنها اللحظة التي وُلد فيها التحالف، أو بالأحرى اللحظة التي استوعبت فيها بريطانيا أن النفوذ على أميركا أهم من النفوذ على العالم كله.

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، حين كانت بريطانيا تخسر إمبراطوريتها وتغادر الهند وفلسطين ومصر، كانت في الواقع تُعيد ترتيب قواعد اللعبة. فقد كشفت مذكرات رئيس الوزراء البريطاني كليمنت أتلي ومحادثات ما بعد الحرب أن لندن كانت تسعى إلى استراتيجية “التوجيه من الداخل”، أي استخدام خبرتها الاستعمارية والاستخباراتية لتزويد واشنطن برؤية تجعل القرارات الأميركية امتداداً للخبرة البريطانية. وهكذا وُلد تحالف “العيون الخمس” عام 1946، والذي أتاح لبريطانيا أن تبقى داخل غرفة التحكم الأمني الأميركية، ليس كحليف عادي، بل كطرف يمتلك قدرة الوصول نفسها تقريباً التي تملكها واشنطن إلى المعلومات العالمية. إنه أكبر باب نفوذ عرفته بريطانيا منذ انهيار هيمنتها البحرية.

وفي الشرق الأوسط تحديداً، كانت لندن اللاعب الخفي الذي نقل خبراته الاستعمارية إلى واشنطن. ففي انقلاب إيران عام 1953، اعترفت وثائق الـCIA نفسها عام 2013 بأن بريطانيا هي من دفعت نحو إسقاط حكومة محمد مصدق المنتخبة، بعدما هدد بتأميم النفط الذي كانت تسيطر عليه شركة “أنغلو-إيرانية”—التي أصبحت لاحقاً “بريتيش بتروليوم”.

البريطانيون صاغوا العملية، وأقنعوا الأميركيين بالتنفيذ، ليصبح الشرق الأوسط مسرح النفوذ المشترك. وهو ما تكرر لاحقاً في العراق، حيث اعتمدت واشنطن بعد عام 1991 على خرائط وسجلات وتقارير كتبها ضباط بريطانيون إبان الانتداب، وكأن القرن كله يعاد تدويره على طاولة المخابرات.

أما لحظة النفوذ القصوى فقد تجسدت في حرب العراق 2003. فقد أثبت تقرير “تشيلكوت” الشهير عام 2016 أن لندن قدمت للبيت الأبيض تقارير استخباراتية غير مكتملة عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وأن توني بلير وعد بوش الابن كتابةً بأنه “سيكون معه مهما حدث”، قبل أشهر طويلة من اتخاذ قرار الحرب. البريطانيون لم يشاركوا فحسب؛ بل لعبوا دوراً في طمأنة الإدارة الأميركية بأنها تتحرك في الاتجاه الصحيح، رغم المعارضة الدولية العارمة. كانت تلك الحرب مثالاً صارخاً على أن بريطانيا لم تعد قادرة على شن الحروب بمفردها، لكنها قادرة تماماً على دفع القوة الأكبر لشنها.

وعندما وصل باراك أوباما إلى السلطة، بدا خطابه مغايراً لنهج أسلافه، لكن الجهاز الاستخباراتي الأميركي ظل يعتمد اعتماداً شبه كامل على المعلومات التي توفرها شبكة “العيون الخمس”. وفي ملفات الإرهاب، من اليمن إلى سوريا، كانت التقارير البريطانية — خصوصاً من MI6 — هي الأكثر تأثيراً في غرف القرار الأميركية، بما في ذلك تقييمات صعود داعش عام 2014، وتحذيرات مبكرة من انهيار الموصل. كل ذلك جرى بينما كانت العلاقات الرسمية تبدو باردة، في حين أن العلاقات السرية كانت أكثر حرارة من أي وقت مضى.
ثم جاء دونالد ترامب، المشاغب السياسي الأكثر افتعالاً للضجيج في تاريخ الرئاسة الأميركية. ورغم أنه هاجم الناتو وهدد الأوروبيين، فإن بريطانيا كانت الدولة الغربية الوحيدة التي حافظت على مستوى ثابت من الوصول إلى دائرة القرار.

 فبعد بريكست، احتاجت لندن إلى اتفاقات تجارية وتعاون أمني أعمق مع واشنطن، وفي المقابل احتاج ترامب إلى جهاز استخباراتي يتمتع بالخبرة في تعقب الجماعات العابرة للحدود. وحتى حين اصطدمت إدارته بالمؤسسات الأميركية نفسها، كان النفوذ البريطاني في البنتاغون ومجلس الأمن القومي ووكالة الأمن القومي مستمراً. بريطانيا في عهد ترامب لم تكن في الواجهة، لكنها كانت في داخل الجدران، حيث يُصنع القرار الحقيقي.

وعبر هذا المسار الطويل الممتد حتى 2025، يمكن رسم ملامح قصة غير معلنة: بريطانيا التي خسرت إمبراطوريتها العسكرية حافظت على إمبراطورية من نوع آخر—إمبراطورية النفوذ داخل القوة رقم واحد في العالم. لم يعد تأثير لندن يقاس بعدد السفن في المحيط، بل بعدد التقديرات التي تصل إلى مكتب الرئيس الأميركي وتبدأ بجملة: “توصي المخابرات البريطانية…”.

ومن الحرب العالمية الأولى إلى ترامب، أثبتت بريطانيا أنها الدولة التي تجيد فن الحكم من وراء الستار، وأن الإمبراطوريات لا تموت، بل تغيّر مكان جلوسها؛ عند النظر إلى قرن من العلاقات الأميركية البريطانية، يبدو واضحاً أن واشنطن كانت جسد القوة، لكن لندن كانت في كثير من الأحيان عقلها الخفي. ففي عالمٍ يتغير بسرعة، تحافظ لندن على سلاحها الأهم: القدرة على التأثير داخل الدولة التي تملك القرار العالمي. وإذا كان التاريخ يعلمنا شيئاً، فهو أن بريطانيا لا تخسر نفوذها، بل تعيد تدويره. وهكذا، بينما يراقب العالم صعود الصين وعودة روسيا، هناك قوة أخرى تعمل في الظلال—قوة تعرف أنها لا تحتاج إلى رفع علمها فوق العواصم، بل يكفي أن تضع كلماتها داخل ملفات الرؤساء الأميركيين. تلك هي بريطانيا: الإمبراطورية التي تخلت عن الأرض، لكنها لم تتخلَ عن اللعبة.

اخبار ذات صلة