في أحد المراكز الصحية المتواضعة في غرب مدينة غزة، جلست أم شابة تحتضن طفلها الذي لا يكاد وزنه يتجاوز كف يدها بينما كانت تراقب الممرضة التي تحاول إدخال أنبوب التغذية الرفيع في فمه الصغير. في الغرفة نفسها، تنتظر أمهات أخريات يحملن أطفالا نحلت أجسادهم من الجوع، أو يقفن في طابور طويل أملا في جرعة علاج تحفظ حياة مولود خديج ولد في ظروف حرب وجوع وحصار.
هذه المشاهد تحولت إلى جزء يومي من الواقع الطبي في غزة بعد وقف إطلاق النار الذي منح السكان هدنة جزئية من القصف، لكنه لم يمنحهم هدنة من الجوع. آلاف الأطفال والحوامل يدخلون مراكز العلاج وهم يحملون آثار انهيار صحي متصاعد، وسط عجز المستشفيات عن التعامل مع موجة سوء التغذية غير المسبوقة.
وقالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) مؤخرا إن أكتوبر الماضي شهد رقما صادما بدخول 9300 طفل للعلاج من سوء التغذية الحاد، وهو رقم يقل عن ذروة اغسطس التي تخطت 14 ألف طفل، لكنه يبقى أعلى بكثير من المستويات الطبيعية التي كانت تسجل في غزة قبل الحرب.
وتؤكد المنظمة أن وقف إطلاق النار لم يحسن تدفق المساعدات الإنسانية بالشكل الكافي، وأن حالة الأطفال ما تزال حرجة.
وأوضحت المتحدثة باسم اليونيسف تيس إنجرام أن الوضع يغرق نحو الأسوأ، إذ تواصل المراكز الصحية استقبال حالات ضعف حاد بين الأطفال وتدهور مستمر في أوزانهم، بينما تعاني الأمهات أنفسهن من الجوع. وتشير إلى أن غزة سجلت في الشهر نفسه علاج 8300 امرأة حامل ومرضع من سوء التغذية الحاد، رغم أن القطاع لم يشهد قبل تشرين الأول 2023 أي حالة مشابهة بين الحوامل.
طفل وُلد من رحم المجاعة
كانت فايزة أبو طيور، وهي أم لثلاثة أطفال من مدينة غزة، تحلم بأن يكون حملها الرابع محطة أمل في خضم ما تعيشه عائلتها من نزوح متكرر وضيق حال. لكن الأشهر الأخيرة من حملها تحولت إلى رحلة صراع يومية مع الجوع، بعدما عاشت أسرتها واحدة من أقسى موجات المجاعة التي ضربت القطاع خلال الحرب.
كما كانت فايزة تقول لمن حولها إن جسدها لم يعد يحتمل، وإنها تشعر وكأن طفلها يتضاءل داخلها يوما بعد يوم. لم تكن تجد ما يكفي من الطعام، وكانت تحاول أن تقسم ما تحصل عليه بين أطفالها الثلاثة، فتأكل أقل قدر ممكن كي يبقى لهم شيء. وشيئا فشيئا بدأ جسدها يفقد قدرته على الصمود، حتى أصبحت بالكاد تستطيع الوقوف من شدة الضعف.
عندما حانت لحظة الولادة، وصلت فايزة إلى المستشفى وهي ترتجف من الإرهاق. لم يكلّف الأطباء أنفسهم الكثير من الوقت ليدركوا خطورة حالتها. كان الطفل قد جاء إلى الحياة بوزن أقل من كيلو غرام واحد، جسد صغير جدا أقرب إلى قبضة يد، وأنفاس متقطعة تكافح لتبقى. وضعوه في الحاضنة فورًا، لكن فايزة لم تستطع حتى أن تحمله؛ كانت تبكي وهي تنظر إليه خلف الزجاج، وتشعر بأنها عاجزة عن منحه ما حُرم منه طوال أشهر الحمل.
تقول فايزة لـ "فلسطين أون لاين" إن أكثر ما كسر قلبها هو حين أخبرتها القابلة أن طفلها لم يحصل على الغذاء الكافي داخل رحمها لأن جسدها نفسه كان في حالة مجاعة. كانت كلماتها صادمة، لكنها لم تكن جديدة على كثير من نساء غزة اللواتي أصابتهن موجة الجوع نفسها.
أمضت فايزة أيامًا وهي تنتظر خبرًا مطمئنًا من الأطباء، فيما كانت الحاضنة تعاني من نقص الكهرباء، والأدوية شحيحة، والحليب العلاجي غير متوفر إلا بكميات محدودة. شعرت أن حياة طفلها ترتبط بحظ الكهرباء وبوصول شاحنة مساعدة واحدة. كانت تقف كل صباح قرب غرفة العناية وتهمس لطفلها: "اصمد يا روحي، اصمد".
قصة فايزة ليست حالة فردية، بل واحدة من عشرات القصص التي تكشف أن الأطفال لا يولدون اليوم في غزة بوزن منخفض فحسب، بل يولدون من رحم مجاعة قاسية تشكل خطرا على حياتهم منذ اللحظة الأولى.
انهيار الوضع الصحي
بدوره، قال مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة لصحيفة "فلسطين" إن المعطيات الأخيرة الصادرة عن منظمات أممية، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة للطفولة، تكشف حجم الكارثة الصحية المتفاقمة في قطاع غزة، رغم مرور نحو شهرين على وقف إطلاق النار، مؤكدا أن الوضع الإنساني يتدهور بشكل خطير بسبب القيود الإسرائيلية على دخول المساعدات.
وأوضح الثوابتة أن الأرقام المتعلقة بالنساء الحوامل والمرضعات "أخطر وأكثر إيلاما"، إذ سجلت المنظومة الصحية في الشهر ذاته علاج 8300 امرأة من سوء التغذية الحاد، بمعدل يصل إلى نحو 270 حالة يوميا، رغم أن غزة لم تشهد قبل أكتوبر 2023 أي حالة سوء تغذية بين الحوامل. وقال: "نحن اليوم أمام واقع جديد يولد فيه الأطفال بوزن منخفض أو خدج، لأن أمهاتهم يدخلن مرحلة المجاعة خلال الحمل".
وأكد الثوابتة أن هذه المؤشرات "تفضح بشكل واضح عدم كفاية تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة"، لافتا إلى أن ما يدخل من شاحنات غذاء ودواء "لا يلبي الحد الأدنى من احتياجات أكثر من مليونَي نازح".
وشدد على أن استمرار القيود الإسرائيلية على دخول المستلزمات الطبية الأساسية والحليب العلاجي والمواد الغذائية يفاقم الأزمة الصحية، ويجعل حياة آلاف الأطفال مهددة في كل لحظة.
وقال مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إن "وقف إطلاق النار لم يوقف معاناة السكان، فالجوع ينتشر وتهديد سوء التغذية يتوسع يوما بعد يوم"، مضيفا أن "العالم مطالب الآن بتحرك فوري وحقيقي، وليس الاكتفاء ببيانات القلق".
ودعا الثوابتة المجتمع الدولي والمؤسسات الإنسانية والدول العربية والإسلامية إلى تكثيف الضغط السياسي والدبلوماسي على دولة الاحتلال الإسرائيلي لفتح معبر رفح بشكل كامل أمام المساعدات، والسماح بدخول الوقود والمستلزمات الصحية دون قيود، مشددا على أن "إنقاذ الأطفال في غزة لم يعد مسألة إنسانية فقط، بل مسؤولية دولية ملحة".