تُعدّ الأسرة في غزة وحدة الصمود الأولى في مواجهة الحرب، فهي الحاضنة النفسية والمعنوية التي يتكئ عليها الفرد في زمن الانهيارات الكبرى.
ومع أنّ الحروب تستهدف البنية التحتية، إلا أنها تُحدِث في بنية الأسرة ما هو أعمق وأكثر رسوخًا: تبدّل الأدوار، تصاعد التوترات، بروز أنماط تواصل جديدة، وتغيّر في صورة الذات وصورة الآخر داخل الأسرة.
تهدف هذه المقالة إلى تحليل ديناميات العلاقات الأسرية في غزة بعد الحروب، وفهم التحولات النفسية والاجتماعية التي تصيب الزوجين، الأطفال، المراهقين، وكبار السن، مع تقديم توصيات إرشادية قابلة للتطبيق.
أولًا: الصدمة كمنطلق لإعادة تشكيل العلاقات الأسرية
الحرب تُنتج صدمة جماعية، لكن أثرها داخل البيت يختلف حسب:
- القدرة على التكيف.
- الدعم الاجتماعي المتاح.
- تجارب الفقد والنجاة.
- الموارد النفسية والدينية.
تبدأ الصدمة بتفعيل سلوكيات النجاة لدى أفراد الأسرة (اليقظة، الحذر، الانسحاب)، والتي تمتد إلى ما بعد توقف القصف، فتتحول إلى ممارسات يومية تشكل العلاقات.
ثانيًا: تغيّر أدوار الزوجين داخل الأسرة
1. المرأة: من ربة بيت إلى قائدة أزمات
شهدت الحروب في غزة تقدّمًا واضحًا لدور المرأة:
- إدارة المنزل في غياب الزوج أو انشغاله.
- اتخاذ قرارات مالية ومعيشية طارئة.
- دعم الأبناء نفسيًا.
- تنظيم عمليات الإخلاء والحماية.
هذا الارتفاع في مستوى المسؤولية أفرز ثقة جديدة لدى المرأة، وأحيانًا توترًا لدى الرجل الذي يشعر بأن دوره تراجع في لحظات.
2. الرجل: بين دور الحماية وضغط العجز
الرجل يواجه صدامًا بين دوره التقليدي (الحماية والإنفاق) وبين واقع الحرب الذي قد يعطّله عن أداء هذه الأدوار. ينتج عن ذلك:
- تزايد الحساسية والانفعال.
- مشاعر الفشل أو الذنب.
- اللجوء للصمت أو الانسحاب.
هذه التوترات كثيرًا ما تتحول إلى خلافات زوجية بعد الحرب، تحتاج إلى احتواء وإعادة تعريف الأدوار.
ثالثًا: الأطفال والمراهقون.. الأكثر هشاشة
1. الأطفال
يتأثر الأطفال بالحرب من خلال:
- الفزع الليلي.
- التعلّق الزائد بالأهل.
- العدوانية.
- اضطرابات الكلام واللعب.
وقد تتحول الحرب إلى جزء من لعبهم ورسمهم وتخيّلاتهم.
2. المراهقون
يميل المراهقون إلى:
- الشعور بالتهديد على مستقبلهم.
- البحث عن معنى للحرب داخل هويتهم.
- تبني مواقف حادة (تمرّد/انطواء).
- تحمل مسؤوليات فوق طاقتهم (جلب الماء، البحث عن الدواء، حماية الإخوة).
العائلة تصبح بالنسبة لهم مساحة "اختبار رجولتهم" أو "انتمائهم"، ما يخلق احتكاكات مع الأهل.
رابعًا: كبار السن.. أبناء الصبر الطويل
يواجه كبار السن الحرب بتركيبة عاطفية مختلفة:
- الخوف من العجز.
- الذكريات المتراكمة من الحروب السابقة.
- الشعور بأنهم عبء على الأسرة.
ومع ذلك، كثيرًا ما يكون كبار السن مصدر:
- الحكمة.
- الاستقرار العاطفي.
- سرد الحكايات التي تمنح البيت معنًى وطمأنينة.
-
خامسًا: الصمت الأسري.. لغة ما بعد الصدمة
بعد الحرب، تدخل الأسرة في مرحلة "الصمت الجمعي".
ليس صمتًا سلبيًا دائمًا، بل:
- محاولة لاستيعاب ما حدث.
- إعادة تنظيم المشاعر.
- رغبة في الهروب من النقاش المؤلم.
وقد يصبح هذا الصمت مشكلة إذا:
- طال أمده.
- حلّ محلّ الحوار.
- ترافق مع تجنب مشترك للذكريات.
سادسًا: متلازمة النجاة وتأثيرها داخل الأسرة
نجاة أحد أفراد الأسرة من الموت القريب يخلق:
- مشاعر الامتنان.
- مقابلها شعور بالذنب لدى الناجي.
وقد يظهر ذلك في:
- حماية مفرطة للأبناء.
- قلق زائد على الزوج أو الزوجة.
- محاولة تعويض من ماتوا من خلال سلوكيات مثالية قسرية.
👈 سابعًا: توصيات إرشادية لتعافي الأسرة بعد الحرب
على المستوى الأسري
1. تخصيص وقت أسبوعي لحوارات هادئة حول ما حدث.
2. إعادة توزيع الأدوار بشكل واقعي بعيدًا عن الصور المثالية.
3. دعم الأطفال عبر اللعب العلاجي، الرسم، والتنفس العميق.
4. تجنب النقد والسخرية من ردود أفعال أفراد الأسرة.
5. تعزيز الأنشطة المشتركة (طبخ، تنظيف، قراءة، صلاة).
على المستوى المجتمعي
1. توفير جلسات إرشاد نفسي جماعية.
2. إطلاق برامج توعية حول إدارة الضغوط الأسرية.
3. دعم مبادرات ترميم العلاقات الزوجية بعد الحرب.
4. إشراك المدارس في متابعة التغيرات السلوكية لدى الطلبة.
خاتمة
*العائلة الغزية ليست مجرد مؤسسة اجتماعية؛ إنها خط الدفاع الأول في معركة البقاء وتعافي المجتمع*.
ولأن الحرب لا تنتهي بتوقف القصف، فإن إعادة بناء العلاقات الأسرية تمثّل خطوة مركزية في إعادة بناء الإنسان الغزي.
إن فهم ديناميات ما بعد الحرب ليس ترفًا علميًا، بل ضرورة إنسانية لضمان قدرة الأسر على النهوض من تحت الركام، واستعادة قدرتها على الحب والتواصل والحياة.