في اللحظة التي يمرّر فيها الاحتلال قانون إعدام الأسرى، يكتمل شكلٌ جديد من الهندسة الممنهجة للموت، حيث يتحوّل الاعتقال من إجراء قمعي إلى بنية موتٍ مؤسَّسة، تُدار بيد بن غفير كجزء من مشروع أوسع لإخضاع الوعي الفلسطيني عبر تفكيك إرادة الأسرى، فاستشهاد 110 أسرى في أقل من عامين كان إعلاناً مبكراً عن مرحلة القتل المحسوب، الذي يسبق القانون ويمهّد له، ويحوّل السجون إلى مناطق تصفية بطيئة تتجاوز حدود القانون الدولي والأخلاق البشرية معاً.
لأول مرة يتعامل الاحتلال مع الأسرى باعتبارهم ملفاً للتصفية الشاملة، وليس ككيانات محمية وفق اتفاقيات دولية، وهذا التحوّل يفضح التوجّه الصهيوني نحو شرعنة الإبادة الفردية بعد الإبادة الجماعية في غزة، ضمن سردية واحدة، وذلك بسحق كل ما يمثّل تهديداً للهيمنة الصهيونية، ولو كان ذلك عبر تقنين القتل وتحويله إلى بند قانوني.
إن ما يجري اليوم يُمثل معركة على تعريف الحق نفسه، وعلى إعادة تموضع قضية الأسرى في ساحة القانون الدولي باعتبارها ملفّاً قابلاً للتدويل العاجل، وبوصفها جريمة مستمرة تستوفي معايير الإعدام خارج نطاق القضاء، وهنا تصبح مسؤولية العالم في فضح البنية الإجرامية التي سبقته ومهّدت له، وأفرزت شهداء خلف القضبان دون أن تُفتح تحقيقات دولية واحدة.
الإعدام البطيء كسياق تأسيسي لقانون الإعدام
لم يأتِ قانون إعدام الأسرى من فراغ؛ فقد سبقه مسار طويل من الإعدام البطيء الذي شكّل البنية التمهيدية لشرعنة القتل العلني. فالإهمال الطبي، ومنع العلاج، والتعذيب كانت أدوات سياسية لإنتاج نموذج جديد من السيطرة، نموذج القتل المُدار الذي يُستنزَف فيه جسد الأسير تدريجياً إلى أن يصبح موته أمراً مفهوماً داخل المجتمع الصهيوني.
من خلال تحويل الحق في العلاج إلى امتياز قابل للمنع، أعاد الاحتلال تعريف حياة الأسير كمجرّد رصيد قابل للتآكل، فالتعذيب والإهمال يشتغلان هنا كـبرمجة مسبقة للموت؛ فهما يختبران حدود ردود الفعل الدولية ويُنتجان سردية صهيونية تعتبر حياة الأسير غير محمية، ما يجعل تقنين الإعدام لاحقاً خطوة منطقية لا صادمة.
وعندما يُمنع العلاج أو يُقيّد وصول الأسير إلى أبسط مقوّمات البقاء، يُنتَج تدهور صحي؛ وأيضاً سردٌ اجتماعي مُهيَّأ، يترسّخ في الوعي العام داخل المنظومة الصهيونية أن حياة الأسير خياراً يمكن شطبه دون أن يُعدّ ذلك جريمة، وهكذا تتشكّل آلية خطيرة اسمها التطبيع مع الموت المُدار: تتدرّج المواقف من تقصير إلى إهمال مُبرَّر ثم إلى إجراء أمني، ليصبح قانون الإعدام لاحقاً مجرّد ترجمة تشريعية لثقافة باتت جاهزة نفسياً وسياسياً لتقبّل القتل كسياسة عامة.
واستشهاد 110 أسرى في أقل من عامين يُعد مؤشّر على انحراف في إدارة السجون، فهو يكشف عن تسريع الزمن القاتل وتحويل السجن إلى منشأة تصفية بطيئة، واختبار المجتمع الدولي والمجتمع الصهيوني لقبول المزيد من الدم دون مساءلة، واستخدام الموت المتكرر كمنصة للانتقال من الإعدام غير المعلن إلى الإعدام المُشرعن، وبهذا يصبح الإعدام البطيء القاعدة التي أنجبت القانون ومنحته فكرته وجرأته، لينتقل الاحتلال من القتل المتدرج إلى القتل المعلن بغطاء تشريعي.
بن غفير وصناعة مؤسسة الموت
لم يكن بن غفير مجرّد وزير يعتلي منصباً أمنياً؛ لقد دخل المنظومة وهو يحمل مشروعاً صريحاً لتحويل السجون إلى بنية عقابية تقوم على إنتاج الموت لا إدارة الاعتقال، فالرجل يتعامل مع السجن كـمسرح يختبر فيه قدرته على إعادة تعريف القوة داخل "إسرائيل"، وصياغة مكانته السياسية عبر التحكم المطلق في حياة الأسرى الفلسطينيين.
فمنذ تولّيه وزارة الأمن القومي، أعاد بن غفير هندسة السجون وفق ما يشبه "بروتوكول تصفية بطيئة" من خلال: تقليص الطعام إلى حدّ التجويع المقصود، وتفريغ العلاج من مضمونه، وتكثيف العزل، وتوسيع التفتيش والقمع الجماعي.
هذه الإجراءات كانت بناءً ممنهجاً لسجن يتحوّل تدريجياً إلى مؤسسة موت، وفي نظر بن غفير، لا يحتاج الإعدام إلى غرفة خاصة أو قرار قضائي؛ يكفي أن تُدار بيئة السجن بطريقة تجعل الحياة فيه عملية استنزاف يومي تؤدي للنتيجة ذاتها.
ما فعله هو نقل السجون من كونها أماكن للاعتقال إلى وحدات إعدام مؤسسية دون إعلان رسمي؛ كأن القتل يُنفّذ بصمت، بينما يُترك القانون لمرحلة لاحقة، فقط ليمنح هذا الواقع اسمه الحقيقي.
في الداخل الصهيوني، بن غفير يُعد زعيم خطاب يقوم على تحويل العنف إلى رصيد انتخابي، فهو يدرك أن جمهور اليمين يبحث عن بطولة ميدانية لا عن إدارة مؤسسات، وأن القتل الموجّه ضد الفلسطينيين -وخاصة الأسرى- يشكّل أسرع طريق لـتوسيع نفوذ الشعبوية الأمنية.
لهذا يوظّف بن غفير الموت داخل السجون كأداة حكم بثلاث وظائف أساسية:
1. ترسيخ صورته كقائد فوق القانون: حين يفرض سياساته على مصلحة السجون ويتجاوز المعايير الدولية، يقدم نفسه لقاعدته باعتباره الرجل الذي يكسر القيود ويعيد لكيانهم هيبته، وهنا يتحول الموت من جريمة إلى استعراض قوة سياسي.
2. تعزيز ثقافة الانتقام بدل منظومة العدالة: وذلك عبر ترسيخ فكرة أن الفلسطيني مستباح وأن حياة الأسير لا تستحق المعاملة الإنسانية، يعيد تشكيل الوعي الصهيوني باتجاه قبول القتل كخيار مشروع، وهذا يعمّق الانقسام ويمنح بن غفير موقع الممثل الأجرأ لمعسكر التطرف.
3. تصعيد محسوب لإبقاء نفسه على صدارة المشهد، فكل موجة قمع داخل السجون تُعيد بن غفير إلى الأخبار وتثبت لجمهوره أنه الأكثر قدرة على تأديب الفلسطينيين، وبهذا يصبح القتل داخل السجون أداة لبناء الزعامة لا لحفظ الأمن.
بن غفير لا يدير السجون؛ إنه يعيد تعريفها، ويحوّلها من بنية احتجاز إلى معامل موت سياسي، ويستخدم حياة الأسرى كورقة نفوذ داخلية، ويحوّل العنف إلى منصة صعود لا إلى سياسة أمنية، هكذا يصبح الانتقال من السجن إلى المقصلة تحوّلاً طبيعياً داخل مشروع رجل لا يرى في الأسرى سوى فرصة لإنتاج سلطة مبنية على الدم.
القانون الجديد؛ شرعنة القتل وتفكيك الحماية القانونية للأسرى
يمثّل تمرير قانون الإعدام في السياق الصهيوني تحوّلاً نوعياً في مسار القضية، فلم يعد الأمر مجرد تشديد أمني أو ردع، إنّما صار إعادة رسم لحدود الحياة والموت ضمن معادلة السيادة، فالقانون هنا يعمل كأداة تثبيت نهائي لمعادلة سبق أن جُرّبت عملياً داخل السجون، من الإهمال إلى الإبادة الجزئية، ومن القتل غير المعلَن إلى القتل المُعطى صفة الشرعية، وهذا التحوّل يُقرأ سياسياً بوصفه توسيعاً لمنطقة الاستباحة؛ إذ يُصبح الفلسطيني -خصوصاً الأسير- مُعرَّفاً قانونياً كشكل من أشكال الخطر الدائم الذي لا يُستحق عنه سوى إدارة النهاية.
أما في مواجهة اتفاقيات جنيف ومعايير حقوق الإنسان، فإن القانون الجديد لا يرفضها فقط؛ إنّما يفكّكها من الداخل عبر آليتين مترابطتين: أولاً، إعادة تعريف الأسير من شخص محمي إلى موضوع قابل للتصنيف العقابي حتى لو كان ذلك بخرق مفهوم الحماية ذاته؛ وثانياً، إفراغ الضمانات الإجرائية من مضمونها عبر تحويل الإعدام إلى نتيجة تُستدعى كمقتضى أمني بدل أن تُعامل كاستثناء لا يُتصوَّر. بهذا المعنى، يصبح القانون أداة لإعادة هندسة المرجعية الحقوقية، حيث يُعاد تشكيل الواقع بحيث لا تبقى للاتفاقات وظيفة عملية سوى كونها نصوصاً مُعلّقة فوق واقع مُعاد صناعته على قاعدة الاستثناء الدائم.
صدمة الأرقام؛ ماذا تكشف حصيلة 110 شهداء عن بنية السجون؟
حين تُقرأ حصيلة 110 شهداء خلال أقل من عامين بوصفها رقماً سياسياً لا إحصائياً، تتبدّى السجون كنظام إنتاج موت أكثر مما هي نظام احتجاز، فالرقم هنا يعمل كبصمة تُظهر أن الموت صار مخرجاً متكرراً داخل تصميم المؤسسة العقابية، مؤسسة تُدار بحيث يُصبح تدهور الجسد نتيجة متوقعة، ومُحتسبة ضمن معادلة التحكم.
إذا فككنا أنماط الموت داخل السجون، يتضح أن ثلاثة مسارات تتشابك لتنتج النتيجة نفسها:
1. الإهمال الطبي بوصفه آلية تجفيف بطيء لوظائف الجسد؛ إذ يُدار المرض كعملية استنزاف مقصودة.
2. الحرمان الغذائي بوصفه ضغطاً هيكلياً يختزل الكرامة إلى معادلة السعرات والفتات، ويحوّل الجوع إلى أداة ترويض سياسي تُستخدم لإخضاع الإرادة دون إراقة دم مباشرة.
3. التعذيب بوصفه أداة إعادة تشكيل للذات؛ هدفه تفكيك القدرة على الرفض حتى يصبح الاستسلام الخيار الأكثر بقاءً.
وهنا تظهر الدلالة الأعمق أنّ *الانتقال من موت بالإهمال إلى موت بالتشريع هو تتويج لمرحلة سابقة من الاختبار والتعويد*، فكل حالة وفاة تركت دون مساءلة تعمل كمعيار جديد يُوسّع الحدّ المقبول، ويُدرّب المنظومة على عدم التوقف، وعندما يُقرّ قانون الإعدام لاحقاً، يكون قد منح الاسم الرسمي لواقع كان قائماً عملياً، فهي سلطة تُدير الموت كسياسة، ثم تُحوّله إلى نص يُقال عنه إنه قانون، وبهذه القراءة يتحوّل الرقم إلى شهادة على بنية تُنتج الموت أولاً، ثم تُسرّع بتقنينه لاحقاً لتغلق الدائرة بين الفعل والشرعنة.
تدويل القضية؛ لماذا أصبح ملفّ الأسرى أقرب إلى جرائم ضدّ الإنسانية؟
مع إقرار قانون الإعدام، انقلب ملفّ الأسرى إلى منظومة جريمة مُستمرّة تُنتج أذىً متكرراً ومنظّماً وفق منطق يمكن وصفه بالهندسة الإدارية للموت، فإدارة روزنامة الانهيار الجسدي (مرضاً بلا علاج، جوعاً مُداراً، عزلاً مُطوّلاً) ثم إضفاء غطاء تشريعي على النهاية المطلوبة، في هذا الإطار، يصبح الحديث عن مأساة فردية تماهياً مع خطاب المُرتكب؛ أما القراءة السياسية الدقيقة فتُصنّف ما يجري بوصفه نمطاً مؤسسياً من العنف المنهجي يلتقي مع معايير الجرائم ضد الإنسانية حين يتجوّل القتل داخل السجون بوصفه سياسة.
من هنا تتبدّى قابلية التدويل ليس كضرورة مُلحة، فالقضية تتجاوز حدود انتهاك حقوق إلى بنية تُنتج أذىً جماعياً متكرراً، وهو ما يفتح بوابة المساءلة الجنائية الدولية؛ فالـICC أعلن اختصاصه الإقليمي على الأراضي الفلسطينية وفتح تحقيقاً رسمياً في جرائم حرب مزعومة ضمن هذا السياق، ما يقدّم مساراً قانونياً يمكن أن يستوعب ملفّ السجون بوصفه جزءً من نمط أوسع من الجرائم المنسوبة إلى القضية الفلسطينية.
والأخطر سياسياً أن القانون الجديد يعمل على تفكيك الحماية القانونية للأسرى من الداخل، حيث يُعاد تشكيل الواقع بحيث تصبح الضمانات نصوصًا معلّقة، وتحويل الأسير إلى موضوع قابل للتصفية بدل أن يُعامل كشخص محمي، وهو انقلاب يضرب جوهر القواعد الإنسانية (الحد الأدنى من الحماية وفق القواعد المعيارية في القانون الإنساني) التي تفرضها على من لا يشاركون في القتال أو أُخرجوا منه.
ولأن التدويل عملية جوهرية على من يملك تعريف القانون، فإن مسؤولية الدول والهيئات الأممية تُقاس بقدرتها على تفعيل آليات المساءلة (تحقيقات، توثيق، ضغوط قانونية، دعم مسارات المحكمة الجنائية) بحيث لا يبقى التشريع الصهيوني مُحصّناً بالشلل الدولي، في لحظة يصبح فيها الإعدام مُقنَّناً، تُصبح أي مسايرة أو تمييع للمساءلة تواطؤاً في تحويل القتل إلى سياسة عامة.
ما بعد القانون؛ السيناريو الأخطر في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية
على مستوى قواعد الاشتباك في ملفّ الأسرى، فإن القانون الجديد يغيّر قواعد اللعبة في اتجاهين متوازيين:
أولاً، يرفع كلفة الصمت؛ لأن السكوت أمام تقنين الإعدام يعني قبولاً ضمنياً بتوسّع منطقة الاستباحة من السجن إلى المجتمع كله.
ثانياً، يفرض على الحركة الأسيرة نفسها إعادة ترتيب أدواتها من داخل المعركة، من أدوات الصمود اليومي إلى أدوات إدارة المعركة الرمزية التي تُحوّل كل انتهاك إلى دليل سياسي مُعلَن، وتحوّل كل استشهاد إلى نقطة اشتباك معرفية، وتُعيد تعريف القضية في الفضاء الدولي.
بهذا المعنى، يصبح أخطر ما يخلّفه القانون هو تحويل القضية إلى اختبار نهائي للقدرة الفلسطينية على حماية معنى المقاومة من أن يُختزل في معادلة الموت، هل يُفرض على الشعب أن يتعايش مع القتل المُقنَّن كقدر؟ أم يُحوّل هذا القيد إلى شرارة إعادة بناء المشروع الوطني على قاعدة أكثر صلابة، تُجبر العالم على أن يرى الأسرى بوصفهم حدّاً أخلاقياً لا يجوز تجاوزه؟
في المحصلة، يمثّل قانون الإعدام الإعلان الرسمي عن دخول "إسرائيل" مرحلة السيادة الدموية التي تحكم الأسرى بمنطق الاستئصال لا الاحتجاز، إنها لحظة تتكشّف فيها دولة الاحتلال كما هي، كيانٌ يوحّد بين القانون والمشنقة، ويحوّل السجون إلى مختبرات عنف، ويستخدم الموت أداة إدارة للسكان والمواجهة معاً.
ومع ذلك فإن هذا التشريع -مهما بدا فادحاً- لن ينجح في كسر جوهر الحركة الأسيرة ولا إطفاء جذوة الوعي الفلسطيني، فالقانون الذي وُلد من رحم الخوف لن يواجه إلا مزيداً من المقاومة، والقيد الذي حاولوا تحويله إلى مقصلة سيصبح دليل إدانتهم أمام العالم.
وهكذا يتقدّم ملف الأسرى ليصبح اختباراً أخلاقياً كونياً، إمّا أن يُكسر منطق الإعدام الممنهج، أو تُترك الإنسانية لتترنّح تحت صمتٍ هو نفسه شكل من أشكال التواطؤ.

