فلسطين أون لاين

​في السجال حول الأمن الفلسطيني، أجهزة وعقيدة

ذات ندوة في بيروت، خُصصت للبحث في المصالحة الفلسطينية وما بعدها، سألني شاب ناشط في أحد مخيمات لبنان: في حال تسلمت السلطة الفلسطينية الأمن في غزة، وقررت (إسرائيل) جريًا على عادتها في الضفة الغربية، اقتحام مدينة أو قرية أو مخيم في القطاع، لتصفية مطارد أو ملاحقة مطلوب، كيف ستتصرف السلطة؟ هل ستفعل كما تفعل في الضفة، حيث التعليمات تقضي بعدم التعرض للدوريات الإسرائيلية، أم أنها ستنضم إلى أهل غزة وفصائلها، وتتصدى للاعتداء الإسرائيلي بما توفر لها من أدوات ووسائل؟ ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لـ(إسرائيل)، وكيف يمكن للأمور أن تتطور بعد ذلك؟

تفاجأت والحضور بالسؤال، إذ إن تركيزنا في النقاش انصرف إلى التكهن بما يمكن لحماس أن تفعله في الضفة، وما إذا كانت ستقدم على رفع وتيرة عملياتها العسكرية هناك أم أنها ستتساوق مع مناخات «التهدئة» وتلتزم أشكال الكفاح الشعبي والجماهيري السلمية في الغالب؟ لكنه سؤال جدّي للغاية، لا سيما مع احتدام الجدل والخلاف عشية اجتماعات القاهرة المقبلة، حول «توحيد» الأجهزة الأمنية ودمجها، وبروز قضية «العقيدة الأمنية» لهذه الأجهزة من جديد، وما إذا كنا بالفعل أمام خلاف حول «العقيدة القتالية» أم أن هذا الخلاف يخفي رغبة في إدامة شكل من أشكال «ازدواجية السلطة».

(إسرائيل) تتفادى الذهاب بعيدًا في اقتحاماتها للقطاع، وتكتفي بعمليات قصف جوي أو تنفيذ عمليات اغتيال غادرة ... فيما السلوك الإسرائيلي في الضفة الغربية، يبدو مغايرًا تمامًا، فهي تسيّر الدوريات، وتنفذ اعتقالات ومداهمات، وتصل «جيباتها العسكرية» إلى بوابة المقاطعة أو أسوار منزل الرئيس ورئيس حكومته ... الاحتلال هنا مباشر، أما في القطاع فهو غير مباشر، ويتحذ شكل الحصار المشدد والتطويق المحكم، و«اليد الطليقة» لتنفيذ الاغتيالات وتدمير الأنفاق واستهداف مواقع ومقرات ومعسكرات بين الحين والآخر.

كيف ستتعامل السلطة مع وضع كهذا؟ وكيف يمكن لها أن «تضمن» عدم قيام (إسرائيل) بتصعيد عملياتها مراهنة على ردود أفعال مضبوطة، وغالبًا كلامية، من الجانب الفلسطيني؟ ومن يحمي عشرات الكوادر القيادية في الفصائل وأذرعها العسكرية من سياسات الانتقام والتصفية الإسرائيلية؟ ومن أين ستأتي السلطة بهذه الضمانات؟ أسئلة وتساؤلات، لا شك ستكون حاضرة على مائدة الحوار عندما تحين لحظة البحث في توحيد الأجهزة الأمنية، والاتفاق حول «عقيدتها القتالة».

وفي الوقت الذي يبدو فيه طلب السلطة بطلب استلام المسؤولية الأمنية في القطاع منطقيًا، إذ لا معنى لوجودها الرمزي على المعابر وأبواب الوزارات، فإن من المنطقي كذلك، التفكير، ومن الآن، بأن السلطة تعني المسؤولية كذلك، خصوصًا حين يتصل الأمر بحفظ أرواح الناس وحيواتهم، وهذا أمر يتعين على السلطة أن تفكر بتقديم إجابات عليه، خارج الإطار الانشائي – الوعظي الذي يتكرر على ألسنة بعض الناطقين باسمها بين الحين والآخر، فالفشل في الوصول إلى اتفاق جدي حول هذه العناوين، من شأنه أن ينسف مفاعيل المصالحة، بل وأن يعيد المشهد الفلسطيني إلى المربع الأول.

دعونا نفكر بسيناريو تقوم فيه (إسرائيل) بتنفيذ اختراق داخل القطاع، السلطة ستنتقد (إسرائيل) وتندد بأعمالها العدوانية، وستدعو مصر، راعي الوساطة، والمجتمع الدولي برمته، خصوصًا الولايات المتحدة للتدخل لوقف العدوان ومنع تكراره، لكن هذه الوسيلة التي لم تنجح يومًا في الضفة، ستفشل أيضًا في غزة، فهي سلاح مثلوم، و(إسرائيل) آخر من سيستجيب لنداءات المجتمع الدولي ومنظماته ودوله.

في غزة، ثمة عامل آخر، غير قائم في الضفة الغربية، سيجعل الأمر أكثر تعقيدًا، على السلطة والفلسطينيين عمومًا، فالفصائل الأخرى، ومن بينها حماس والجهاد، ما زالت تحتفظ بسلاحها، وهي متمرسة في المناوشات والمعارك مع الجيش الإسرائيلي أقله لعشر سنوات، وهي سياسيًا ترفض «التنسيق الأمني»، ولا تعنيها أبدًا، محاذير من نوع «تفادي إحراج السلطة»، فما الذي سيمنع هذه الفصائل من القيام بنفسها بالتصدي للاختراقات الإسرائيلية، وهل بمقدور السلطة ساعتئذ أن تمنعها من القيام بواجبها في حماية عناصرها وكوادرها ومواطنيها؟ هل ستتصدى السلطة لهذه الفصائل بدل مجابهة الخرق الإسرائيلي، وكيف ستمضي مفاعيل: سلاح واحد، ورجل شرطة واحدة، وغيرها مما يتطاير من مفاهيم وشعارات؟

المصالحة تتقدم، وإن بخطى وئيدة، هذا صحيح، والتفاهمات التي أنجزت حتى الآن لم تمس القضايا الجوهرية والحساسة التي تسببت بالانقسام وتعمّقت في ظلاله، وهذا صحيح أيضًا، لكن الصحيح فوق هذا وذاك، أن (إسرائيل) ما زالت لاعبًا رئيسًا في موضوع المصالحة، وبيدها أن تقلب الطاولة على رؤوس المتحاورين، إن أخفق هؤلاء في تخطي البحث في قشور المسائل ومظاهرها الخارجية، ولم ينجحوا في التأسيس لشراكة تنتقل بالعلاقة بينهم من حدود المصالحة إلى ضفاف «الوحدة الوطنية».