من يقرأ النقد الشعبي المتزايد لأداء الحكومة الفلسطينية، مثل المقال الساخر الذي كتبه الاستاذ غسان جابر، يلتقط بسهولة ملامح الإحباط العام: وعود كبيرة، أفعال صغيرة، إجراءات شكلية، وإدارة يومية تبدو كأنها هرولة في المكان.
لو افترضنا نظريا أن ثلثي الشعب الفلسطيني (7 مليون في مناطق اللجوء، و1.9 مليون داخل مناطق العام 1948) ارتضوا "طوعا" تأجيل بلوغ حقوقهم الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف في الحرية والعودة وتقرير المصير، "وليس كرها كما هو واقع الحال بعد أن أقصاهم اتفاق أوسلو"، فقد امتلكت السلطة الفلسطينية ثلاثة عقود، عوضا عن خمس سنوات وفقا للاتفاق، لتنفيذ وعودها بإقامة دولة فلسطينية على حدود العام 1967، فلماذا فشلت؟
ما يبدو كأنه سوء أداء للحكومات المتعاقبة ليس سوى العَرَض. أما المرض الحقيقي فموجود في مكانٍ آخر، أعمق، وأخطر، وأبعد من قدرة أي حكومة - لو حسنت نواياها - على إصلاحه.
ذلك أن المشكلة ليست في سائق القطار. المشكلة في القطار نفسه، وفي السكة التي خُطّت له منذ أوسلو.
أولا: سلطة وُلدت بلا سيادة، وتُطالب بأن تؤدي وظائف دولة
منذ تأسيسها، وُضعت السلطة الفلسطينية في وضعية مستحيلة:مطلوب منها أن تكون دولة في حين أنها لا تملك أيا من مقومات الدولة الأساسية:
• لا سيادة على الأرض مقطعة الأوصال: غزة، القدس الشرقية، الضفة الغربية (مناطق ا 18%، مناطق ب 22%، مناطق ج 60%، الخليل H1 وH2)
وتباين في الصلاحيات، فسلطة السلطة تقتصر على مناطق ا فقط، ولها سلطة جزئية في مناطق ب، وليس لها أي صلاحيات في مناطق ج، فالسلطة للاحتلال فيها مطلقة. كما أن الصلاحيات الكلية والجزئية في المنطقتين ا وب قد تم إلغاؤها تدريجيا منذ إعادة اجتياح مناطق الحكم الذاتي في ربيع 2002، وما يبدو من مظاهر سلطة ما تزال قائمة، لا يتجاوز ما هو مسموح به من سلطة الاحتلال التي لها اليد العليا في كل ما يتصل بحياة الشعب الفلسطيني.
• فلا سيطرة على الأرض والموارد.
• ولا تحكّم في الحدود.
• ولا قدرة على حركة الأشخاص والسلع داخل المناطق ومع العالم الخارجي.
• ولا مجال لإدارة الاقتصاد بمعزل عن الاحتلال.
• ولا سلطة أمنية لحماية المواطنين في وجه استعمار استيطاني عنصري إلغائي إحلالي، تتقدمه آلة استيطانية مدججة بأحدث أسلحة الفتك والدمار، تحفر فوق الأرض وتحتها.
سلطة الحكم الذاتي طُلب منها أن تدير حياة 5 مليون فلسطيني داخل حدود يتحكم فيها نقيض وجودي بالكامل - طرف لا يخفي برنامجه الإلغائي، بل يعلنه يوميا:
استبدال كامل فلسطين بإسرائيل، واستبدال كل شعبها العربي بالمستوطنين اليهود المستقدمين من كل بقاع الأرض.
فما الذي يمكن أن تنتجه أي حكومة تعمل داخل هذه القيود؟
غير المتوقع يصبح متوقعا:
أزمات مستمرة، عجز بنيوي، موازنة لا تستقر، رواتب لا تنتظم لموظفي السلطة، واقتصاد محاصر، ومؤسسات مكبلة سياسيا وأمنيا وماليا.
وهذا ليس فشل حكومة. بل فشل نموذج كامل.
ثانيًا: السلطة تدرك عجزها، لكنها تسير في الطريق ذاته
المفارقة المؤلمة أن القيادة الفلسطينية تعرف ذلك.
الرئيس محمود عباس نفسه قال مرارا: “لا حول للسلطة ولا قوة.” وأقواله موثقة صوتا وصورة، وتذاع في وسائل الإعلام الرسمية، وتتكرر في خطاباته في المنابر الفلسطينية والعربية والدولية.
وهو كلام صحيح.
لكن السؤال الذي لا يُطرح هو: إذا كنتم تعرفون أن القطار لا يتحرك، لأن القطار معطوب والسكة خطأ - فلماذا تستمرون في دعوة الشعب وجميع بناه ومؤسساته للصعود إليه؟
كيف يمكن مطالبة الناس بالثقة في مسار جُرّب لأكثر من ثلاثة عقود- ولم ينتج سوى مزيد من التآكل، مزيد من الضغوط، مزيد من التوسع الاستيطاني جغرافيا وديموغرافيا، مزيد من القتل والتدمير والاعتقال والبطالة والفقر والتشظي، ومزيد من تراجع القدرة الوطنية على الاستقلال وتقرير المصير؟
ما نعيشه اليوم ليس فقط نتيجة قرارات خاطئة، بل نتيجة تصميم على تكرار الخطيئة ذاتها وتوقع نتائج مغايرة، رغم أن نهاية الطريق باتت معروفة وملموسة.
ثالثًا: من نقد الأعراض إلى تشخيص العطبالانتقاد الشعبي - سواء جاء ساخرا أو غاضبا أو تحليليا - غالبا ما ينشغل بالأعراض:
• حكومة غير كفؤة
• إجراءات بطيئة وغير فعّالة.
• فساد وترهل إداري.
• افتقار للجرأة.
لكن هذه كلها أعراض لن تفهم ما لم نرتفع إلى مستوى التشخيص الصحيح:
السلطة تعمل داخل معادلة مصممة لتعطيلها.
هي ليست حرة في اتخاذ القرار.
ولا في التخطيط.
ولا في التنفيذ.
وحتى مواردها ليست بيدها.
هنا جوهر المرض.
وكل ما نراه فوق السطح ليس سوى انعكاس لهذا العطب البنيوي.
رابعا: مأزق الشرعية، ومأزق الوظيفة
سلطة بلا سيادة تقع في فخَّين متلازمين:
1. مأزق الشرعية،
لأنها لم تعد قادرة على تقديم ما يربطها بالناس: حماية، خدمات، دفع رواتب موظفيها، أفق سياسي، أو مشروع وطني.
2. مأزق الوظيفة،
لأن وظيفتها الأمنية - الإدارية الأصلية - كما صمّمها اتفاق أوسلو - تتآكل كل يوم مع توسع وتغول الاستيطان، وانهيار فكرة “الحل السياسي”. وهكذا تصبح السلطة معلقة في الهواء:
لا هي سلطة دولة،
ولا هي حركة تحرر،
ولا هي قادرة على التحول إلى أي منهما.
خامسًا: لماذا نحتاج إلى إعادة تعريف السلطة، وليس فقط إصلاحها؟
السؤال الحقيقي اليوم ليس: كيف نحسن أداء الحكومة؟
بل: لماذا ما نزال نقبل نفس بنية السلطة بينما مشروع التسوية السياسية تغير جذريا، والاحتلال كشف عن وجهه الحقيقي بوضوح؟
السلطة - التي أُنشئت لإدارة مرحلة انتقالية قصيرة لمدة خمس سنوات انتهت منذ 26 عام - أصبحت:
• بلا أفق سياسي أو اقتصادي،
• بلا قدرة على حماية السكان وممتلكاتهم،
• بلا قدرة على إنهاء الاحتلال،
• وبلا أدوات لإدارة مجتمع تحت هجمة استيطانية هي الأكبر والأعنف منذ 1967.
الإصلاح داخل النموذج لن ينتج أكثر من ترقيع مؤقت، ومآزق تنفجر تباعا.
والتغيير الحقيقي لا يأتي بتفعيل آلية الانتخابات كما يطالب كثيرون. تغيير الواقع يتطلب إعادة تعريف وظيفة السلطة نفسها في سياق مشروع التحرر، لا في سياق إدارة الوضع القائم.
إعادة تعريف السلطة لا تعني هدمها أو استبدالها، بل تحريرها من الوظيفة الأمنية - الإدارية الضيقة التي حُشرت فيها منذ أوسلو. المقصود هو تحويلها من جهاز يتعامل مع الواقع كما هو، إلى إطار يخدم مشروع التحرر الوطني. وهذا يشمل:
• تحديد دور السلطة كجزء من حركة تحرر وليس كبديل عنها.
• إعادة توزيع وظائفها بما يخدم الصمود والبقاء لا “إدارة الوضع القائم”.
• بناء مؤسسات تستمد شرعيتها من المجتمع الفلسطيني وليس من الاتفاقيات.
• نقل مركز القرار من الاستجابة للضغط الخارجي إلى الاستناد للقرار الوطني الجامع
سادسا: التجارب العالمية وفرادة الحالة الفلسطينية
يقدم التاريخ نماذج لحركات تحرر واجهت مؤسسات حكم ذاتي قيدها الاحتلال - مثل جنوب إفريقيا وناميبيا مثلا – ورغم أن المقارنة هنا ليست بغرض التشابه الكامل، بل لتوسيع زاوية الرؤية. ففي جنوب أفريقيا، أدرك المؤتمر الوطني الإفريقي أن المجالس المحلية التي أنشأها نظام الفصل العنصري كانت أدوات لاحتواء المجتمع، فحوّلها إلى منصّات مقاومة بدل التعامل معها كمعبر نحو دولة ديمقراطية لا يمتلك شروطها بعد. وفي ناميبيا، أعادت حركة “سوابو” تعريف مؤسسات الحكم الذاتي التي أقامتها الإدارة الاستعمارية لتصبح جزءا من منظومة التحرر لا جزءا من إدارة الاحتلال.
لكن الحالة الفلسطينية تتسم بفرادة تاريخية، ناجمة عن طبيعة المشروع الاستعماري الصهيوني نفسه: فبينما كان الاستعمار الاستيطاني في جنوب أفريقيا وناميبيا "استغلاليا" يهدف للسيطرة والهيمنة والاستفادة من الأرض والموارد.
فإن المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين بطبيعته
"استبداليا/ إلغائيا - إحلاليا" في فلسطين، و"وظيفيا" في عموم المنطقة العربية - الإسلامية الممتدة. ويعمل على إعادة هندسة الجغرافيا والديموغرافيا معا، ويستقدم مستوطنين يهودا من كافة بقاع الارض ليحلّوا محلّ الشعب الأصلي. وهذا يجعل مأزق السلطة الفلسطينية أعمق وأكثر تعقيدا، لأنها لا تعمل فقط في ظل منظومة تمييز عنصري، بل داخل مشروع استبدالي يرى وجودها نفسه مؤقتا وخارج خريطته النهائية.
ومن هنا، لا تأتي أهمية المقارنة من تشابه الظروف، بل من إدراك أن أزمات مؤسسات الحكم الذاتي تحت الاحتلال ليست أزمات أداء فقط، بل أزمات وظيفة وبنية ودور - مع خصوصية فلسطينية تُحتّم إعادة تعريف دور السلطة بما يخدم مشروع التحرر، لا الاكتفاء بإدارة واقع صُمّم لشلّها، ولتوظيفها في خدمة المشروع الصهيوني اليهودي الخاص، والمشروع الإمبريالي الغربي العام للهيمنة على عموم المنطقة.
سابعا: إلى أين يذهب القطار؟
يحق للفلسطيني أن يسأل اليوم: إلى أين يتحرك هذا القطار؟
هل يسير نحو حماية الأرض؟ نحو تحرر فعلي؟ نحو دولة قابلة للحياة؟
أم أنه ما يزال يدور في مسار صُمّم سلفًا لتكريس الاحتلال وتمكينه من تحقيق المشروع الخاص والعام معا، وإبقاء الشعب الفلسطيني داخل الدائرة نفسها؟
إن تشخيص العطب في القطار وفي السكة التي يسير عليها ليس تشاؤما، بل خطوة أولى ضرورية قبل أي إصلاح حقيقي. فالسؤال لم يعد كيف نُسرّع القطار، بل: هل هذا القطار أصلا هو ما نحتاجه؟ وهل هذه السكة هي الطريق نحو التحرر أم نحو إدارة أبدية لواقع مفروض؟
عندما يُعاد طرح السؤال من أساسه، يصبح ممكنا تخيّل مسار جديد:
مسار يستعيد دور السلطة كجزء من مشروع التحرر، يعيد وصلها بشعبها، ويضع أدواتها وشرعيتها في المكان الصحيح.
فالقطارات لا تصل لأنها تتحرك فحسب، بل لأنها تتحرك في الاتجاه الذي يخدم الغاية التي أُنشئت من أجلها.

