يبدأ العام الدراسي الجديد في قطاع غزة مثقلًا بجراح الحرب، لا بكتبٍ ودفاتر، إذ يواجه مئات آلاف الطلبة واقعًا تعليميًا قاسيًا مع الغلاء الفاحش للقرطاسية، وشُحّ المعروض منها في الأسواق، ومنع الاحتلال الإسرائيلي إدخال المستلزمات التعليمية منذ اندلاع العدوان، ما ينذر بكارثة تربوية تهدد مستقبل جيل كامل.
في الأسواق القليلة التي لا تزال تعمل، ترتفع أسعار الدفاتر والأقلام إلى مستويات غير مسبوقة، مقابل تدنٍ حاد في القدرة الشرائية للأسر التي أرهقتها الحرب، وسلبتها مصادر الدخل، ودفعتها إلى البحث المضني عن أبسط مستلزمات التعليم.
رجاء أبو العوف، واحدة من آلاف الأمهات اللواتي يجُبن شوارع غزة بحثًا عن دفترٍ لطفل أو قلمٍ لأخيه، تقول لصحيفة "فلسطين": "القرطاسية ليست مفقودة تمامًا، لكنها شحيحة وباهظة الثمن. ما نجده يُباع بأسعار لا نقدر عليها".
وتضيف بمرارة: "أعيش في حي الزيتون الذي طالته موجات الدمار، ولم أجد مكتبة واحدة قريبة تبيع مستلزمات الدراسة، وعندما عثرت عليها فوجئت بالأسعار المرتفعة".
وتوضح أن دفتر الأربعين ورقة الذي كان يباع قبل الحرب بشيقل واحد، أصبح اليوم يتراوح بين 4 و5 شواقل، في وقت تحتاج فيه الأسرة الواحدة إلى عشرات الدفاتر لأطفالها، ما يجعل تأمينها شبه مستحيل.
من جانبه، يصف عبد الله مشتهى، صاحب مكتبة في حي تل الهوا، حال السوق بأنه "شبه مشلول"، ويؤكد لـ"فلسطين" أن البضائع التي تُباع حاليًا هي مخزون قديم لما قبل الحرب، دون أي توريد جديد.
ويضيف: "نبيع ما تبقى لدينا من سنوات سابقة، والأسعار ارتفعت لأن الكميات نادرة، ونحن نشتريها أصلًا بأسعار عالية".
ويتابع: "الطلب كبير، لكن القدرة على الشراء ضعيفة. طلاب كُثر يدخلون المكتبة ثم يخرجون دون شراء شيء بعد سماع الأسعار".
تحذيرات أممية
من جانبها، دقّت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" ناقوس الخطر، مؤكدة أن الاحتلال يمنع إدخال أي مواد تعليمية إلى القطاع منذ بداية الحرب، مشيرة إلى أنها كانت توزع سنويًا آلاف الحقائب والدفاتر والكتب، لكنها لم تتمكن هذا العام من إدخال أي منها بسبب الإغلاق التام للمعابر.
وأوضحت المنظمة أن العملية التعليمية لا يمكن أن تستمر دون أدوات تعليمية أساسية، محذرة من الآثار الخطيرة لهذا النقص على التحصيل العلمي والصحة النفسية للطلبة.
في إحدى المدارس التي تأوي نازحين في حي تل الهوا، تحوّلت الغرف إلى صفوف مكتظة تستقبل عشرات الطلبة في مساحة ضيقة، دون مقاعد كافية أو أدوات تعليمية.
الطالبة رؤى موسى (12 عامًا) تصف يومها الدراسي قائلة: "في الصف أكثر من مئة طالب وطالبة، لا أفهم الدروس جيدًا، ولا أملك دفترًا جديدًا".
وتضيف: "أكتب على دفاتر قديمة من العام الماضي. والدي بلا عمل، ولا يستطيع شراء القرطاسية لي ولإخوتي".
لا تحلم رؤى اليوم بأكثر من دفترٍ جديد وكتابٍ نظيف وصفٍّ غير مزدحم، "كما كنا قبل الحرب"، تقول.
مبادرات محدودة
بدوره، يقول عبد الرحمن حميد، مدرس لغة عربية في مبادرة تعليمية بمتنزه برشلونة في تل الهوا، إن الدعم الذي وصل العام الماضي مكّنهم من توفير حقائب كاملة للطلبة، لكن هذا العام تغيّر كل شيء.
ويضيف: "حتى الآن، لم يصلنا أي دعم فعلي للقرطاسية، وكل ما وردنا مجرد وعود بطباعة رزم تعليمية".
ويحذّر من أن الأزمة ستنعكس سلبًا على التحصيل العلمي، خصوصًا مع توسع المبادرات التعليمية وعودة آلاف الطلبة إلى مقاعد الدراسة رغم غياب المقومات الأساسية.
وسط هذا المشهد القاتم، يبقى مستقبل العملية التعليمية في غزة معلّقًا على أبواب المعابر المغلقة، وعلى وعود دولية لم تُترجم بعد إلى واقع.
وتحذر المؤسسات الدولية من أن استمرار هذا الوضع ينذر بخسارة جيل بأكمله لحقه في التعليم.
ورغم كل ذلك، لا يزال طلبة غزة يتمسكون بأحلام صغيرة… دفتر، قلم، وكرسي في صف آمن.