في خضمّ التحولات الكبرى التي يعيشها الإنسان المعاصر، وفي ظلّ إيقاع متسارع يضغط على الأعصاب ويشوّش على البصيرة، تبرز الحاجة إلى مفهوم جوهري قدّمته السنّة النبوية باعتباره أحد أعمدة التربية الروحية والسلوكية: الاستمرار. ليس بوصفه عادةً جامدة، بل باعتباره منهجًا لبناء النفس، وركيزةً تصنع شخصيةً قادرة على مواجهة تقلّبات الحياة. من هذا المنطلق يكتسب حديث النبي ﷺ: «أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» أهمية تتجاوز إطار العبادة الفردية، لتصل إلى أن يكون قاعدةً في تطوير الإنسان لنفسه، وصناعة علاقته بعالمه، وإدارته لزمنه ولأهدافه.
الدوام… قيمة تتجاوز العبادة إلى نمط حياة
الدوام هو أن ينشأ في حياة المرء شيء مستقرٌّ وثابت، لا يتأثر بتقلّب الظروف ولا بتغيّر المزاج. فالعمل الذي يثبت، حتى إن بدا صغيرًا، يشكّل في النفس مرتكزًا داخليًا يوفّر لها شعورًا بديمومة المعنى، وبأن هناك رابطًا لا ينقطع بينها وبين السماء. وهكذا يتحوّل الحديث من كونه تعليماً عبادياً إلى كونه فلسفةً للتعامل مع الزمن. كل يوم نضع فيه لبنةً صغيرة، لكنه منتظمة، يكتسب مع الوقت قيمةً تتجاوز مجموع تلك اللبنات. إنها منهجية تراكمية لا تهتمّ بمقدار ما يُنجز في اللحظة، بقدر اهتمامها بما يبقى ويثبت عبر الأيام.
النفس البشرية… ولغز الانتظام
من يراقب سلوك الإنسان يدرك أن التقلّب جزء من طبيعته. ولذلك فإن أيّ عمل يُناط بالنفس على أساس الاندفاع اللحظي، مهما كان عظيمًا، يحمل في داخله بذرة الفناء. فالاندفاع طاقة قصيرة العمر، أما الاستقرار فهو إعادة تشكيل للنفس وترويض لها. ولهذا كان الدوام مطلوبًا: لأنه يقاوم أمواج النفس. النَفْسُ لا تستقيم بالقوة، بل تستقيم بالوتيرة الهادئة التي تمزج بين المعنى والاعتياد. وفي هذا تقول إحدى الحكم الجميلة: “العادةُ خليفةُ الطبيعة.” أي إن ما يتكرر يصبح جزءًا من ماهية الإنسان، لا جهدًا يبذله. العمل الدائم ليس مجرد التزام؛ بل هو عملية إعادة تشكيل داخلية، تجعل الإنسان أقرب إلى الاتزان، وأقرب إلى نفسه، وأقرب إلى الله.
الدوام وبناء الهوية الروحية
في التجربة الإيمانية الممتدة عبر التاريخ، لم يكن التقرب إلى الله عملية قفزات، بل مسارًا طويلًا من الخطوات الصغيرة. والقيمة الحقيقية لهذه الخطوات ليست في حجمها، وإنما في أثرها العميق على تكوين الإنسان. حين يقرأ أحدنا صفحةً من القرآن يوميًا، فإنه لا يضيف معلومة جديدة فحسب؛ بل يؤسس علاقة، ويضبط ساعةً داخلية توقظه إلى المعنى، ويُنشئ في قلبه نسبةً ثابتة من النور. وحين يحافظ على ركعتين في السحر، فهو لا يمارس طقسًا، بل يعيد كل يوم صياغة علاقته بنفسه، ويذكّرها أنها ليست محض جسد يتحرك في السوق والشارع؛ بل روح وُجدت لتسمع النداء قبل أن تسمع الضوضاء. وهكذا تصبح الأعمال الدائمة نوعًا من الهوية الروحية: شيءٌ يعرف الإنسان به نفسه، قبل أن يعرفه الآخرون به.
الدوام والاستقرار النفسي
الدراسات النفسية الحديثة بدأت تكتشف ما عرفته التربية الإيمانية منذ قرون: أن انتظام الإنسان على فعلٍ معين، ولو كان بسيطًا، يُنشئ في حياته حالةً من الاتساق النفسي. ذلك أن التقلّب المستمر يرهق الإنسان ويشعره بأنه مهدّد بالانقطاع الداخلي. بينما العمل المنتظم، - حتى لو كان محدودًا -، يعمل عمل النقطة الثابتة في بحرٍ مضطرب. الإنسان الذي يعرف أن في يومه لحظةً صغيرة ثابتة يلجأ إليها، يشعر بأن حياته ليست فوضى كاملة، وأن في داخله قطعة أرض صلبة يقف عليها مهما تغيّر الخارج.
لماذا كان أحبّ إلى الله؟
لأن الدوام يجمع ثلاثة معانٍ لا تجتمع في غيره:
• الصدق: فالذي يعود إلى العمل يومًا بعد يوم هو إنسان صادق في قصده، غير مدفوع بنوبة عاطفة مؤقتة.
• التواضع: إذ إن الأعمال الصغيرة المستمرة تذكّر صاحبها بضعفه، فلا يغترّ ولا يستعلي.
• العمق: فالأعمال الدائمة تترك أثرًا عميقًا في الروح، لا تتركه الأعمال الموسمية مهما عظمت.
ومن عرف طبيعة النفس أدرك سرّ هذا الحب الإلهي. فالدوام ليس جهدًا فحسب؛ إنه اختيار يومي يتجدّد، ودليل استقرار القلب في وجه عواصف الحياة.
تطبيقات معاصرة لمفهوم الدوام
لأن الحديث موجّه للإنسان في كل زمان، فإنه قابلٌ للتطبيق في حياة المسلم اليوم، مهما كان أسلوب حياته. ومن أبرز تطبيقاته:
• تخصيص وقت يومي قصير للقراءة الروحية أو التدبر.
• المحافظة على قيام يسير، ولو كان ركعتين.
• تنظيم ذكر معين أو دعاء ثابت بعد الصلاة.
• الاستمرار في عمل خيري صغير دون انقطاع.
• بناء عادة معرفية: قراءة صفحة من كتاب، تعلم لغة، حفظ شيء… لكن بانتظام. المهم أن يتحول العمل إلى نبض يومي، وليس إلى موجة حماس قصيرة.
في عالم يميل إلى الإنجاز السريع، وإلى الاستهلاك المفرط للحظات، يأتي حديث النبي ﷺ ليعطي بوصلة مختلفة تمامًا: ليس المهم أن نتحرك كثيرًا، بل أن نتحرك بثبات. ليس المهم أن نُظهر كثرة العمل، بل أن نخلق عملاً يستقر في القلب. فالعبادة ليست سباقًا قصيرًا، بل رحلة عمر، والطريق الطويل لا يُقطع بالركض، وإنما بالخطوات التي لا تتوقف. وهكذا يصبح الدوام قيمةً تربوية وأخلاقية وروحية، بل منهجًا لصناعة الإنسان الذي يعرف كيف يبني نفسه، وكيف يحافظ على وهج قلبه، وكيف يمشي إلى الله لا على قفزات، بل على خطوات ثابتة… خطوات يحبها الله.

