في قلب مدينة غزة الذي كان يومًا ما يضج بالحياة وحركة المواطنين نهارًا وأضواء المحال التجارية والمركبات ليلاً، ينهض سوق فراس الشعبي لكن على هيئة تلال عالية بعدما تحول إلى مكبٍ مؤقت للنفايات الصلبة يستقبل يوميًا آلاف الأطنان التي أفقدت المكان اسمه الحقيقي.
تحمل هذه التلال التي غيرت معالم السوق القديم، ويتجاوز ارتفاعها عشرات الأمتار، كل ما يمكن أن يثير غثيان الإنسان واشمئزازه، بعدما ضاقت السبل بالجهات المسؤولة عن جمع النفايات وترحيلها إلى مكبات مركزية مخصصة لذلك.
ولم يصل الأمر لهذه الكارثة لولا حرب الإبادة التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، واستمرت سنتين، وعطَّلت قطاع الخدمات الخاص بالبلديات.
أمام هذا، لجأت بلدية غزة إلى جمع النفايات في سوق فراس الشعبي في وسط المدينة، بعدما ألحق به جيش الاحتلال دمارًا كبيرًا في خضَّم الحرب.

واقع لا يحتمل
في الجهة المقابلة للمكب، يقف الشاب عبد الرحمن ضبان، على ساقيه ساعات طويلة خلف بترينة من الزجاج. يمضي غالبية وقته في محاولات طرد الذباب والحشرات من على الحلوى الشرقية والشعبية التي اعتادت عائلته على صنعها وبيعها في محل صغير يزيد عمره عن عشرين عامًا.
بالقرب منه، يتابع شقيقه ماجد، الزبائن الذين يمرون مسرعين من أمام محله محاولين الهروب من الروائح الكريهة المنبعثة من المكب.
قال لصحيفة "فلسطين": "لم نعد نتحمل الوقوف أمام المحل، فالروائح قاتلة، والذباب والحشرات تملأ المكان، لكننا نحاول بقدر الإمكان تلبية طلبات الزبائن الذين يأتون لدقائق ويغادرون بسرعة."
وأضاف ماجد، "نعمل في هذا المحل منذ عشرات الأعوام، ولم نواجه من قبل ما نواجهه اليوم حاليًا بسبب تراكم النفايات مكان السوق الذي كان يأتي لنا بكثير من الزبائن".

ويدرك هذا الشاب، البالغ (35 عامًا)، أن حرب الإبادة تركت تداعياتها على عمل البلديات والأوضاع الصحية والبيئية، لكنه قال: كان يفضل جمع النفايات في مكان بعيد عن وسط المدينة.
لكن ذلك يبدو صعبًا في زمن الحرب مع تعمد جيش الاحتلال تدمير معظم آليات جمع النفايات، وعدم القدرة على الوصول إلى المكب الرئيسي في منطقة جحر الديك، شرق غزة، في ظل النقص الحاد بإمدادات الوقود اللازم لتشغيل ما تبقى من آليات.
على حافة شارع عمر المختار، المطل على المكب، فضَّل علي الزايغ (30 عامًا) الوقوف داخل محله المخصص لبيع السلع الغذائية، هربًا من الحشرات والروائح الكريهة التي تخنق الأجواء. كان ينظر باستمرار إلى ساعة فضية في يده اليسرى وكأنه ينتظر موعد إغلاق محله ومغادرة المكان.
يروي علي لـ"فلسطين" وقد بدا في حالة استياء شديد، أن وجود مكب النفايات في منطقة تتوسط مدينة غزة، تسبب بإشكاليات عديدة يواجهها أصحاب المحال التجارية الذين صاروا يشتكون من ضعف الحركة الشرائية.

أما المشكلة الأكبر بالنسبة له، تتمثل باشتعال النيران في المكب، إذ يتصاعد منه دخان أبيض لا يحتمله أحد، ويحجب الرؤية في المكان.
وأضاف علي، أن "مشكلة مكب سوق فراس تؤرق الجميع". وقد حاول الشاب البالغ (30 عامًا) معالجة الأمر بشكل فردي باستخدام كميات مضاعفة من أدوات ووسائل النظافة العامة داخل مكان عمله، لكنها لم تفلح في مقاومة الذباب والحشرات.
وأكمل حديثه "أخشى أن نصاب بالأمراض بسبب المكب والسموم الناتجة عنه، والأمر لا يقتصر على النفايات خاصة عندما تتسرب مياه الصرف الصحي إلى الشارع."
تحذيرات شديدة
بدوره، حذَّر مسؤول الرقابة على النفايات والصرف الصحي في وزارة الصحة المهندس سعيد العكلوك، من أن وجود مكبات النفايات في الأحياء السكنية في مدينة غزة أو غيرها من محافظات القطاع الساحلي، يعرض حياة المواطنين والنازحين للخطر، في ظل عدم قدرة البلديات على الوصول إلى المكبيْن الرئيسييْن، وهما مكتب جحر الديك، والمكب الواقع في منطقة الفخاري شرق المحافظات الجنوبية لقطاع غزة.
وأكد العكلوك لـ"فلسطين"، أن للنفايات الصلبة تأثيرات سلبية كبيرة على البيئة والصحة العامة، ويرافقها انتشار للحشرات والقوارض، ومن الممكن اندلاع حرائق فيها ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الملوثات في الهواء الجوي، الأمر الذي يلحق أضرارًا صحية بالغة بأصحاب المناعة الضعيفة والفئة التي تعاني من أمراض تنفسية وصدرية.
وبين أن المكبات المؤقتة غير مؤهلة لمنع العصارة الناتجة عن النفايات الصلبة من التسرب إلى مياه الخزان الجوفي ما يؤدي إلى تلوثه بمواد كيميائية، وهذه الخاصية يتمتع بها فقط المكبيْن المركزييْن المُبطنيْن بمواد عازلة تحول دون أي تسرب للعصارة.
ونبَّه إلى أن النفايات سواء كانت في المكبات أو متكدسة في الشوارع وبين الأحياء السكنية ومراكز الإيواء، ينتج عنها كوارث ونواقل للأمراض تؤثر على الصحة العامة، وتجعل البيئة مهيأة لانتشار الأوبئة في ظل تراجع المنظومة الصحية، وعدم توفر العلاجات اللازمة، ومنع الاحتلال إدخال المبيدات والمواد الخاصة بالقضاء على القوارض والحشرات.
وقد تراكمت كل هذه الأزمات -بحسب العكلوك- بعدما دمر جيش الاحتلال آليات جمع النفايات وترحيلها، وقلة إمدادات الوقود الخاصة بتشغيل ما تبقى منها، وهو ما أدى إلى انهيار كامل في منظومة علاج النفايات في قطاع غزة.
ولهذا، حذر مسؤول الرقابة على النفايات والصرف الصحي في وزارة الصحة، من أن ظهور أي وباء جديد في غزة، سينتج عنه معدل وفيات كبير.
وكانت بلدية غزة أعلنت أنها تواجه أزمة حادة في استمرار تقديم خدمات جمع وترحيل النفايات الصلبة، بسبب النقص الشديد في كميات الوقود المتوفرة لتشغيل آلياتها.
وأوضحت في بيان صحفي، أن بعض آليات جمع النفايات توقفت عن العمل، أمس، مؤكدة أن ذلك سيؤثر على قدرة البلدية على إزالة النفايات من شوارع المدينة.
وبينت أن أكثر من 350 ألف متر مكعب من النفايات تراكمت في شوارع المدينة والمكبات المؤقتة، في ظل منع طواقم البلدية من الوصول إلى مكب جحر الديك.
وأكدت البلدية، أن هذا الوضع الخطير ينذر بتفاقم الأزمات الصحية والبيئية، حيث تشكل هذه التراكمات بيئة خصبة لانتشار الأمراض المعدية، وظهور القوارض، والبعوض، والحشرات الناقلة للأوبئة، مما يعرض حياة السكان، خاصة الأطفال وكبار السن وذوي المناعة الضعيفة، لخطر الموت نتيجة تدهور الأوضاع البيئية والصحية.
وناشدت البلدية المجتمع الدولي والجهات الإنسانية والإغاثية بسرعة التدخل لتوفير الوقود اللازم لتشغيل الآليات، والسماح لطواقم البلدية بالوصول الآمن إلى مكب جحر الديك، لتفادي انهيار القطاع الحيوي وأي كارثة صحية وبيئية وشيكة.

