قائمة الموقع

الشيخ نضال زلوم والمسبحة الألفيّة

2025-12-07T08:20:00+02:00
فلسطين أون لاين

فكّر الشيخ نضال مليًّا في هديّة ثمينة يخفّ حملها، لأنه سيبعثها مع أمه من مصر إلى فلسطين؛ فلا ينبغي أن تكون ثقيلة أبدًا. السيدة الوالدة، في عقدها الثامن، وعلى مشارف التاسع، ستعود من مصر مثقلة بحديثٍ ذي شجون كثيرة، فيه من الذكريات والمشاعر الجميلة ما تنوء عن حمله الجبال. قضت معه أيامًا معدودات بعد رحلة طويلة من الفراق والعذاب، حيث باعدت سجون الاحتلال بينه وبينها اثنتا عشرة سنة كانت عمر حبسته الأخيرة.

ماذا عساه يُحمّل أمَّه لصديقه كهدية معتبرة ذات معنى ومغزى، ثقيلة في الميزان، خفيفة على الحمل والترحال؟ وجدها: مسبحة ألف حبّة، ستحمل معنى المفردين الذين يذكرون الله كثيرًا، أولئك الذين سبقوا غيرهم في ميادين العشق الإلهي، والارتقاء في مدارج السالكين لتحقيق محبة ربّ العالمين.

ستوصل هذه المسبحة الإجابة عن سؤال كبير: لماذا طلب الله من عباده أن يذكروه ذكرًا كثيرًا؟ وماذا تعني «كثيرًا»؟ هذا الذكر الذي حملني على أجنحته في حبسةٍ طويلة تجاوزت الثلاثين عامًا؛ من مواطن الصبر والمجاهدة إلى رياض المحبة، من الحالة التي يصبر فيها المؤمن على البلاء بجهد ومشقة إلى الصبر الجميل الذي يجد فيه حلاوة وسكينة. ثم يستمر في الذكر حتى لا يرى السجن ولا السجّان، ويستغرق في محراب تبتّله لربّه، فتتحوّل أيام السجن إلى زيادة في المحبة والقرب والفتح الرباني الجميل: معرفة بالله، ومعرفة في كتابه العظيم.

وكان للذكر ما بعد السابع من أكتوبر صولات وجولات،  شنّ الأعداء حربا همجية في سجونهم بموازاة حرب الإبادة في غزّة، جرّدونا من كلّ شيء، ملابسنا وكتبنا وكرّاساتنا وطعامنا وشرابنا ، حاولوا طمس كرامتنا وكسر إرادتنا، ولم يبق معنا سوى سلاح واحد، لسان لا يفتر عن ذكر الله وقلب عامر بحبّه ومعيّته، ساق لنا الذكر سحبا أمطرتنا بلطائف الله ورحماته، زرعت السكينة والطمأنينة في قلوبنا رغم أنف السجان وكلّ حماقاته.  

نعم، الذكر الكثير الذي كان للشيخ منارةً ومصدر طمأنينة، وحياة عظيمة وجميلة في رحاب الله الواسعة، يتنقّل بين أسماء الله وصفاته، ويرتع في ربيع قرآنه، ويتلمّس هديَ خاتم الأنبياء والمرسلين بمعيّةٍ خاصة تترسّخ في أعماقه من قوله تعالى: محمد رسول الله والذين معه؛ فهو دوما مع رسول الله، يسير في ركابه، ويستنشق شذى عطره، ويستنير بنوره، يأخذ بيده برفقٍ ومحبة، ويرتقي به مرتقى لا يعلم جماله إلا الله.

إنها إذًا المسبحة الألفيّة التي تحمل المعنى العظيم للذكر الكثير؛ والكثير هنا عددًا ومعنى: كثرة الفتوحات والمعاني والاستشعارات القلبية، تلك التي لا تخطر إلا في قلوب المحبّين الوالهين المتيّمين العاشقين. هو ذِكرٌ كثير بعمقه وأثره وقدرته على السموّ والارتقاء؛ ذكرٌ تشفّ به الروح وتسمو عاليًا، ويخفّ ثقل الجسد بما فيه من شهوات وتعلّقات دنيوية زائلة. روحٌ لا تتعلّق إلا ببارئها، ولا يروق لها إلا ما كان لله ومع الله، وسوى ذلك علائق يقطّعها الذكر ويلقي بها بعيدًا.

عندئذٍ نرى ونفهم أولئك الذين انقطعوا في الأنفاق بأرواحهم في غزّة، واستعدّوا ليلقوا بأيديهم إلى التضحية بأسمى معانيها وأعظم تجلياتها. ضربوا للناس مثلًا أعلى للإنسانية حين تشفّ وتنير، وحين تكشف زيف كل من أثقلته بشريته ومنعته من أن يدرك روحها الخالدة.

لقد وصلت مسبحتك، سيدي نضال، بكل ما تحمل من رسائل عظيمة. حقّقت غاياتها الجليلة بكل ما قدّمتَ من تضحيات نبيلة. شممتُ فيها رائحة الفردوس الأعلى، وشممتُ فيها سِيَر الذاكرين بحق؛ الذاكرين الذين نجح الذكر في رفعهم إلى ذروة سنام الإسلام، ولم يذهب بهم إلى لذّة روحية تُبعدهم عن الاشتباك مع قوى الظلام.

مسبحتك العظيمة، سيدي، شبّكت بين قلبك ومحبوبك من جهة، ثم عادت عليك روحًا عالية مشتبكة مع أعداء الله على أرفع ما يكون الاشتباك. شممتُ فيها روحك الطيبة ومشاعرك النبيلة.

سنبقى مع المسبحة الألفيّة نذكر الله كثيرًا، ونسابق في ميادين المفردين الذين وصفهم رسول الله بالذاكرين الله كثيرًا. لن نسمح للإنترنت ولا للتيك توك وما جرّه من غفلات رديئة ولا كل الملهيات أن تسرقنا من المسبحة الألفيّة. 

سيبقى الذكر هو الأساس والمنطلق، والارتقاء والسير الحثيث حبًّا وخشيةً وتعلّقًا كاملًا بالحبيب. وسيبقى الذكر عمادَ حياتنا الجميلة.
 

اخبار ذات صلة