قائمة الموقع

الشيخ محمد أبو طير وسجن "ريكيفت"

2025-12-14T12:30:00+02:00
الشيخ محمد أبو طير
فلسطين أون لاين

من أحبّ هذا الرجل الذي قضى من حياته ما يزيد عن ثلاثة عقود خلف القضبان، مشتبكًا بعنفوانه العالي وصوته المجلجل في ساحات السجون، فليُسِحْ في كتاب سيدي عمر لمؤلفه الشيخ محمد أبو طير. ستتعاقب عليك ساحات النضال، مرحلة تعقبها مرحلة، بكل تفاصيلها الحلوة والمرّة، ولكن لن تجد فيه هذا الاعتقال الأخير الذي أخذوا إليه الشيخ على حين غرّة، إلى جحيم جديد يُدعى "ريكيفت"، توأم "سدي تومان"، الذي فاق بشهرته العظيمة سجون "غوانتانيمو" وسجن أبو غريب، الذي كبّ الأمريكان فيهما كلّ شرورهم. هذه سجون ابن غفير الإسرائيلية اليوم، تفوّقت على تلك السجون سيّئة الصيت والسمعة.

يضع الشيخ يده في يدك في ساحة عسقلان ليروي لك تاريخ النضال الفلسطيني في السجون، مذ وطأت قدماه السجن قبل قرابة الأربعين سنة إلى هذه اللحظة، مذ جاء وهو يحمل على عاتقه المؤبد، بعد أن أبلى في الاحتلال بلاءً حسنًا من خلال فعل مقاوم، أيام كان الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين. ثم يأتي على السجون، كيف كانت مقبرة للبشر فأصبحت ذات هوامش للحرية والثقافة وتطوير الذات، خاضت مخاضًا عسيرًا من المواجهة والإضرابات المفتوحة عن الطعام، حتى أضحت سجونًا ظاهرها العذاب وباطنها الرحمة.

وعندما يسعدك حظك فتحضر خطبة جمعة يتبوّأ منبرها الشيخ، تجد قلبك وعقلك يتلقّفان خطابًا مختلفًا، يغوص في أعماق النص فيخرج منه ما يحرّك فؤادك، يُحدث في أعماقك ثورة، تفور مشاعرك، وتفتح في عقلك مساحات جديدة للفكرة، وتصبّ وقودًا عالي الجودة لإشعال الإرادة. تتحرّك كل قواك الكامنة، وترفع هامتك، وتطارد من صحارى نفسك كل قوى الشرّ والعجز والكسل. تشعل بروحك، ترتفع وتحلّق عاليًا. هذا الشيخ سبق فعله قوله، وجاءك يسعى ليرفعك ويبني في نفسك ما يُحيلك ثائرًا كريمًا حرًّا بامتياز.

شكّل الشيخ في السجون، على حضوره المخضرم، علامة فارقة تركت ظلالًا وارفة وأثرًا لا يُمحى أبدًا. على صعيد إدارة الصراع مع إدارة السجن، كان مرجعًا للحركة الأسيرة، وكان يشكّل أمام الإدارة مكانة رمزية ومهابة تحسب لها إدارة السجون حساباتها. ساهم بقوّة في محافظة الحركة الأسيرة على منجزاتها، وتراكم ما تحققه للحياة داخل السجون من هوامش تضمن تحويلها إلى محطات تقوية وبناء. تربويًا وثقافيًا ودينيًا كان للشيخ صولات وجولات، وقد تحوّلت السجون بالفعل إلى مدرسة يوسفية، وليس ببُعدٍ نظري، وإنما كانت كلية عسكرية متخصصة في بناء الذات الثورية. ولك أن تتخيّل مساحة الإلهام الواسعة التي يمنحها الشيخ للسجن الذي يتواجد فيه.

ومن السجون إلى العمل السياسي خارجها، والذي زاد من كلفة هذا العمل باعتقاله مرات جديدة وسحب هويته المقدسية، والشيخ كما هو مشتبكًا داخل السجن وخارجه. تعدّدت أوجه المعاناة؛ هم يصرّون على سجنه وردعه، وهو يصرّ على رسالته في الحياة. هم يريدون الموت لها، وللحياة الفلسطينية، ليتحوّل البشر فيها إلى أرقام لا وزن لها ولا فعل ولا كرامة ولا حرية ولا دور، إلا في الهامش الضيق الذي يريده الاحتلال. وهو يريد الحياة العزيزة الكريمة له ولشعبه. صراع إرادات بين من يملك الحديد والنار والسجون، ومن يملك الحق والإيمان والإرادة الصادقة.

لم تثنه سجونهم عن هدفه ورسالته، ومع السابع من أكتوبر وما تبعه من انكشاف لهذا المحتل في إجرامه وتوحّشه، حاول الشيخ أن لا يعود إلى السجن الذي أصبح جحيمًا لا يُطاق. فدخوله العقد السابع من عمره، وما تحمله نفسه من أنفة وكبرياء، لا تسمح لأي عتلّ زنيم أن يتطاول عليه. اختفى عن الأنظار، وقرّر أن لا يكون لقمة سائغة لماكينة الاعتقال. نجح في ذلك بتجنيب نفسه مرارة الاعتقال سنتين، ولكنهم قبل أيام تمكّنوا من إلقاء القبض عليه. قرّروا الذهاب به إلى ما سمّوه جحيم سجن "ريكيفت" ليذوق به أشدّ العذاب وليدفعوه الى الموت قهرا (لا سمح الله). لن يكون الأمر سهلًا، ولكنهم يصطدمون مع إرادة الرجال. هو يفهمهم جيدًا، ولكنهم لا يفهمون سرّ عنفوان هذا الرجل.

التوحّش على أشدّه في السجون، والشيخ السبعيني هناك في عمق العاصفة. لن ينحني لهم، وهم لن تتراجع ساديتهم ولن تخفّ حدّة توحّشهم. سيبقى صراع الإرادات على أشدّه. الشيخ تعانق روحه السماء بما تحمل من روح القرآن وفكر الحرية والخلاص. لن يضعف أمامهم، ولن يتره الله أعماله. بقي نحن خارج السجون، ماذا نحن فاعلون لهذه الشخصيات الوازنة وأسرانا الاحرار، والتي يجب أن لا نسمح بكسر إرادتهم بأيّ حال من الأحوال.

اخبار ذات صلة