في إحدى زوايا مخيم البريج، تجلس إيمان البغدادي، أمٌّ لثمانية أبناء، تحاول التمسك بخيوط حياة هشة بعدما نزحت من بيتها شرق المخيم مع بداية حرب الإبادة على قطاع غزة. لم يكن أمامها حينها خيار سوى الرحيل تحت القصف، حاملة أبناءها وما استطاعت من احتياجات، لتلجأ إلى منزل أقاربها في أزقة المخيم.
"كنت أحمل ابنتي الصغيرة بين ذراعي، وباليد الأخرى حقيبة صغيرة فيها بعض الخبز والماء… لم أكن أعرف إلى أين نذهب، لكنني كنت أعرف أن عليّ إنقاذهم من الخوف"، تقول لـ "فلسطين أون لاين".
تصف البغدادي لحظة النزوح كأنها "انتزاع الروح من الجسد"، وتتابع: "تركت بيتي وذكرياتي، وكل ما أملك، حتى حاجات أطفالي الثمانية لم أستطع أخذها. لم يكن النزوح مجرد تغيير مكان، بل بداية معاناة يومية".
ومع كل قصف جديد، كانت تحتضن صغيراتها وتقول: "أنا لا أخاف الموت، أخاف أن أبقى على قيد الحياة وهم يرحلون قبلي".
عشر دقائق صنعت الفاجعة
في الثالث والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان صباحًا رماديًا ثقيلًا. وبين جدران منهكة من وجع النزوح والخذلان، جلست إيمان تحتضن أبناءها وكأنها تحتمي بهم من الخوف.
تسرد بصوت مختنق: "اتصل أحد الجيران ليحذرنا بأن الاحتلال سيقصف الشارع بحزامٍ ناري. لم نُمهل أطفالنا حتى نلبسهم جيدًا، ركضنا إلى بيت آخر طلبًا للأمان… عشر دقائق فقط، ثم سقط الصاروخ فوق رؤوسنا".
كان المنزل مكتظًا بأكثر من أربعين شخصًا، معظمهم من النساء والأطفال، وبينهم رجل مسن. وفي لحظة واحدة، تحوّل الملجأ إلى مقبرة. "استُشهد اثنان وعشرون منّا، والبقية كانوا بين الحياة والموت، وأنا من بينهم مصابة بإصابة خطيرة".
تضيف: "كان المشهد فوق الوصف: أشلاء، صراخ، دخان… وطفولة تتبدد. كنت أسمع صراخ بناتي ولا أراهن، شعرت أن أصواتهن آخر ما سأسمعه في حياتي".
كانت أُمًّا لثمانية… صارت لثلاثة
أصيبت البغدادي وإحدى بناتها بجروح متفاوتة، لكن الجرح الأكبر، كما تقول، "نفسي… كيف أقنع من بقي على قيد الحياة أن هناك حياة بعد كل هذا؟".
ثم تأتي الكارثة الأكبر حين أُخرجت جثث خمسٍ من بناتها واحدةً تلو الأخرى: "كنت أمًا لثمانية، واليوم صرت أمًا لثلاثة… فقدت خمس بناتي في لحظة. كل من في البيت إمّا أصيب أو استُشهد، لم ينجُ أحد".
وتتابع: "كل يوم بعد المجزرة كأنه اليوم الأول. كل شيء يذكرني بإحداهن، كل وجبة ناقصة، وكل نداء بلا جواب يكسرني".
وتخنقها الدموع وهي تستعيد لحظة الوداع الأخيرة: "قبل القصف بدقائق كانوا يمسكون المصاحف، يسبّحون ويستغفرون… كانوا خائفين، لكنهم حاولوا أن يجدوا طمأنينتهم بذكر الله. لم أتخيل أن تلك اللحظات ستكون الأخيرة".
إحدى بناتها الشهيدات كانت في السابعة عشرة من عمرها، أمسكت بيد أمها وقالت: "ماما… لا أريد أن أموت". كانت تحلم بالحياة والتعلّم، لكن الصاروخ كان أسرع من حلمها. أما الصغيرة، التي لم تتجاوز الرابعة، فقد قالت لوالدتها قبل أيام من استشهادها: "ماما… حلمت أنني مت". ولم يعرف أحد كيف ينتهي الحلم، لأنه—مثل حياتها—لم يكتمل.
جسدٌ مثخن… وروح تنزف
نجت البغدادي بجسد منهك: شظايا في الرأس، فقدان البصر في العين اليسرى، كسر في الأنف، حروق في اليدين والقدمين، وضعف في السمع.
وكذلك أُصيبت ابنتها ذات الأحد عشر عامًا، وتقول: "ابنتي تعاني كسرًا في يدها وقدمها، وشظية استقرت في خاصرتها، وبطن مفتوح، وحروق تملأ جسدها الصغير… لكن قلبي لم يكن يتسع لوجعين".
تضيف: "كنت أداوي جراح ابنتي المصابة، بينما وجوه بناتي الشهيدات لا تغيب عني لحظة… كنت أراهن في كل زاوية".
وفي ختام حديثها، تقول بصوت مكسور: "كيف لأم أن تودّع خمسًا دفعة واحدة؟ كيف يتحمّل القلب؟ لكن… الله أكبر من كل وجع".