فلسطين أون لاين

أم على حافة الانتظار.. انشراح مهرة تبحث عن ابنها وسط ركام الحرب

...
السيدة انشراح مهرة لا تزال تبحث عن ابنها وسط ركام الحرب
غزة/ جمال غيث

في زاويةٍ من ميناء غزة البحري، تتكئ خيمة بالية على ما تبقى من أعمدةٍ لم تعد قادرة على صدّ برد الشتاء ولا لهيب الصيف، تعيش السبعينية انشراح مهرة، وقد حوّلتها الحرب إلى لاجئة داخل وطنها، بعد أن دمر جيش الاحتلال منزلها في جباليا البلد خلال توغله قبل أشهر، ودفعها هي وآلاف العائلات إلى النزوح القسري.

تجلس مهرة، أمام خيمتها كل صباح، تتأمل وجوه المارة بحثًا عن وجه واحد فقط، وجه ابنها "يعقوب" الذي انقطعت أخباره في يوليو الماضي، وتحول غيابه إلى جرحٍ لا يندمل.

وبين تنهيدة وأخرى، ترفع السبعينية انشراح، عينيها نحو الطريق لعل خطواته تعود، أو ربما يحمل القدر خبرًا يبدد هذا الانتظار الذي ينهش أيامها ولياليها.

رحلة البحث

وتقول الأم بصوتٍ يختلط بين الرجاء والخوف لمراسل "فلسطين أون لاين": "أشعر أن يعقوب، حي والله أشعر ذلك، وأخشى في كل لحظة أن يأتي أحد ليخبرني بأنه استشهد، لكن قلبي يقول إنه معتقل، وأنه سيعود".

تعقد يديها المرتجفتين على عباءتها وتواصل: "ذهب ليجلب أغطية وملابس لبناته الست.. وقال إنه سيعود بعد ساعة، ومنذ تلك اللحظة لم نره".

يعقوب، البالغ 48 عامًا، هو أب لست بنات، عاش سنوات الحرب وهو يحاول توفير الحد الأدنى لعائلته، قبل أن تختطفه الحرب في لحظةٍ واحدة.

وبالنسبة لوالدته، فإن فقدانه ليس مجرد حادث مؤلم، بل امتداد لخسارة سبقتها، إذ فقد يعقوب ابنه "محمد" في الأيام الأولى من حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، بعد قصف منزل قريب منهم.

وتقول الأم، وقد غلبتها الدموع: "فقد يعقوب، ابنه ولا أريد أن أفقده هو أيضًا، يكفينا ما عانيناه".

وقرب الخيمة، يقف سالم، الشقيق الأصغر ليعقوب، متكئًا على عكازه، فالحرب تركت ندوبها في جسده وروحه.

ويروي سالم لمراسل "فلسطين أون لاين" رحلته الطويلة في البحث عن أخيه، رحلة قائلًا: "طرقت فيها كل باب وسألت كل جهة لكن لا إجابة".

وفي صباح 28 يوليو، أي بعد يوم واحد من فقدان يعقوب، قرر سالم، وفق ما قاله لمراسل صحيفة "فلسطين" التوجه إلى الحي في جباليا عله يجد أثرًا يدل على مصير شقيقه، وكان الخوف ينهش قلب أمه.

وتقول الأم بصوت محمل بالوجع: "خشيت أن يعثر ابني "سالم" على شقيقه "يعقوب" مصابًا أو مقتولًا أو يلتحق به فالكلاب تنهش الجثث، والجيش يطلق النار على أي شيء يتحرك".

ما خشيته الأم كاد يتحقق؛ إذ ما إن وصل سالم، إلى محيط منزله المدمر، حتى أطلقت طائرة إسرائيلية صغيرة من نوع "كواد كابتر" قنبلة نحوه، فأصابته شظايا في مختلف أنحاء جسده، إحداها استقرت بجوار شريان حيوي قرب القلب.

ويقول سالم: "نزفت لساعات لا أحد هناك استخدمت قطع قماش من بين الركام لوقف النزيف، وبقيت أقاوم حتى لا أفقد الوعي".

عودة يعقوب

ويصف سالم، تلك الليلة وكأنها فصل من كابوس طويل: "الكلاب كانت تقترب مني طوال الليل.. أحاول رمي الحجارة عليها بيدي الضعيفة، وبعد ساعات الفجر، كنت أسمع صرخات الجنود وعمليات التفجير والنسف فالمكان كله كان جحيمًا"".

ظل سالم، محاصرًا 24 ساعة كاملة قبل أن يتمكن أبناء عمومته من الوصول إليه وإخراجه رغم الرصاص المتواصل في المنطقة، ونقل بعدها إلى مستشفى الشفاء الطبي حيث تلقى العلاج، إلا أن الإصابة تركت أثرًا دائمًا؛ فقد فقد القدرة على تحريك أصابع قدمه اليسرى، وما يزال يتنقل بين المستشفيات على أمل استعادة جزء من حركته.

لكن رغم إصابته وآلامه، كان شغل "سالم" الشاغل شيئًا واحدًا: معرفة مصير شقيقة يعقوب، مردفًا: "أذهب كل يوم تقريبًا أسأل، أبحث أتواصل مع كل جهة ممكنة لا نملك سوى الانتظار".

وبحسب ما يرويه سالم، فإن "يعقوب" كان يعمل داخل الأراضي المحتلة قبل الحرب، وقد تعرّض آنذاك للاعتقال والضرب على يد الجنود قبل أن يطلقوا سراحه شرقي مدينة دير البلح وسط القطاع، بعد إجباره على خلع ملابسه وسرقة أمواله وهاتفه، وهذا يدفع الأسرة للاعتقاد بأن الاحتلال ربما اختطفه مجددًا خلال توجهه إلى منزله في يوليو.

وفي خيمة مهترئة لا تقوى على حماية ساكنيها، تقضي مهرة أيامها بين الدعاء والبكاء، تغفو لترى ابنها في المنام، وتصحو على أمل أن يكون هذا اليوم مختلفًا أن يكون اليوم الذي يطرق فيه "يعقوب" باب الخيمة.

وتتوجه الأم بنداء مؤثر إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر والمؤسسات الحقوقية، قائلة: "نريد أن نعرف فقط هل هو حي أم ميت؟، هل هو معتقل؟، أي خبر يريح قلوبنا".

ثم تنظر نحو البحر الممتد أمامها وتتمتم: "يا رب رجعه إلي ما عاد في قلبي قوة للفقدان".

قصة مهرة ليست قصة عائلة واحدة فحسب، بل هي إحدى آلاف القصص لعائلات تركتها الحرب معلقة بين السماء والأرض، بلا بيت، بلا أمان، وبلا أجوبة، لكن السبعينية "انشراح" بكل ما تحمله من وجع، ما زالت تحمل أيضًا جذوة أمل صغيرة، تؤمن بها وكأنها آخر ما تبقى لها في هذه الدنيا عودة "يعقوب".

المصدر / فلسطين أون لاين