تتصاعد حدة التوتر داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية مع انفجار خلاف جديد بين وزير جيش الاحتلال يوآف كاتس ورئيس الأركان هرتسي زامير، عقب صدور تقرير موسع حول إخفاقات السابع من أكتوبر، شارك في صياغته 12 لواءً وعقيدًا واستغرق سبعة أشهر من العمل.
الخلاف الذي استدعى تدخل رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، يعكس حالة تفكك غير مسبوقة بين المستويين السياسي والعسكري في دولة الاحتلال، ويكشف—بحسب مراقبون—سعي نتنياهو لاستثمار الصراع الداخلي للتهرب من دائرة الاتهام وتحصين مستقبله السياسي في مرحلة تمهد للانتخابات المقبلة.
ثلاثة سياقات
يرى المختص في الشؤون الإسرائيلية سليمان بشارات أن ما يجري لا يمكن فهمه بمعزل عن ثلاثة سياقات أساسية تحكم المشهد الإسرائيلي، أولها اتساع فجوة الثقة بين المستويين السياسي والعسكري، وهي فجوة تعود جذورها إلى لحظة السابع من أكتوبر وما تلاها، حين ظهرت الاختلافات الحادة بين توجهات القيادة السياسية وقرارات المؤسسة العسكرية، سواء في إدارة الحرب أو في تقدير تبعاتها على مستقبل "إسرائيل" السياسي والاستراتيجي.
أما السياق الثاني فهو الصراع السياسي الداخلي، إذ يوضح بشارات في حديثه لـ "فلسطين أون لاين"، أن نتنياهو—وتياره اليميني المتنفذ—يدير حالة خلاف دائم داخل الحكومة لضمان قدرته على إعادة ترتيب أوراقه وتكريس قبضته على المشهد. فكاتس لم يُعين وزيرًا للجيش إلا ليكون "الظل السياسي" لنتنياهو، لكن اعتراضه على تقرير الجيش الأخير وإبداء ملاحظات عليه أزعجا نتنياهو، الذي حاول لعب دور الوسيط بينه وبين زامير، ليظهر وكأنه صاحب الحل والعقد داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية ويبقي السيطرة عليها.
أما السياق الثالث، فهو محاولة كل الأطراف والأذرع السياسية والعسكرية الهروب من تحمل المسؤولية الحقيقية عن الإخفاق الذي وقع في السابع من أكتوبر وما بعده. ويبين بشارات أن هذه الحالة أنتجت ثلاث مستويات معقدة من التوتر الداخلي، يجعل الخلاف الراهن انعكاسًا للمشهد الإسرائيلي المتفكك، فيما يسعى نتنياهو لتحويل هذه الخلافات إلى فرصة للاستثمار السياسي الداخلي، تمهيدًا للانتخابات المرتقبة.
مخاوف إسرائيلية
وفي تفسيره لما يخشاه الإسرائيليون تحديدًا من تداعيات السابع من أكتوبر، يرى بشارات أن المخاوف ترتبط بالبعد الاستراتيجي للمشروع الاستعمار الإسرائيلي، فالتداعيات لا تقتصر على اللحظة الحالية، بل تمتد إلى صورة "إسرائيل" ومكانتها أمام العالم، بعدما اهتزت صورتها الأمنية والسياسية والمجتمعية.
ويضيف أن تراجع الثقة الدولية بـ"إسرائيل" بوصفها "سيدة المشروع الغربي في الشرق الأوسط" يشكل مصدر قلق عميق لها، إلى جانب خشيتها من تأثيرات مستقبلية قد تعصف ببنية المشروع الاستيطاني ذاته، ولهذا يعيش الداخل الإسرائيلي حالة من المخاض، تدفع كل طرف لإلقاء اللوم على الآخر، بينما تقترب دائرة الاتهام من نتنياهو، الذي يحاول باستمرار توسيعها أو تشتيتها حتى لا يكون هو المتهم الرئيسي.
وعن سبب بقاء نتنياهو وكأنه "خارج دائرة الاتهام"، يوضح بشارات أن نتنياهو عمل منذ اليوم الأول تحويل المسؤولية نحو المؤسسة العسكرية تارة، وتجاه مؤسسات سياسية كانت تشرف على إدارة ملف غزة تارة أخرى، رغم أن مكتب نتنياهو كان هو الجهة المشرفة على العلاقة مع قطاع غزة قبل السابع من أكتوبر، مشددًا على أن إطالة أمد الحرب جاءت، كجزء من محاولة الهروب من تداعيات الإخفاقات التي قد تطيحه شخصيًا.
ويرى أن نتنياهو يعيش اليوم صراعًا وجوديًا يتعلق بمستقبله السياسي، وأن هذا الصراع يتقاطع مع مصالح اليمين الصهيوني المتطرف. وقال إن الهجوم على المؤسسة الأمنية والعسكرية مصدره أذرع هذا اليمين، ممثلة بإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش؛ الأخير الذي يحاول، من موقعه في وزارة المالية، التحكم بالموارد المالية للجيش وممارسة الابتزاز على المؤسسة العسكرية بما ينسجم مع توجهات نتنياهو وتيار "الصهيونية الدينية".
ووصف بشارات ذلك بأنه أحد المعضلات المتفاقمة داخل كيان الاحتلال، مؤكدًا أن نتنياهو يدير كل هذه الملفات من خلف الستار، ويعمل على الظهور بمظهر البعيد عنها، معتبرًا إياها "حالة ديناميكية داخلية"، بينما الواقع—بحسب بشارات—يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن نتنياهو هو المستفيد الأكبر من هذه الخلافات، ومن تعطيل أي إمكانية لتشكيل لجنة تقصي حقائق أو لجنة تحقيق رسمية.
ولفت الى أن "إسرائيل" مقبلة على انتخابات، وإن نتنياهو يعمل بكل ما يستطيع لجعل "الأرضية السياسية المقبلة مهيأة لبقائه على العرش السياسي". ولهذا، يتوقع بشارات "مزيدًا من تصاعد الاتهامات والخلافات" داخل المستويين السياسي والعسكري في الأسابيع والأشهر المقبلة.
يمين متطرف يبتلع التناقضات
وعن مدى قدرة نتنياهو على البقاء بمنأى عن تبعات لجان التحقيق والخلافات السياسية المتصاعدة، يؤكد بشارات أن رئيس حكومة الاحتلال يدفع بكل قوته في هذا الاتجاه، ويحاول إخراج نفسه من دائرة التحقيق في إخفاقات 7 أكتوبر، لكنه يشير في الوقت ذاته إلى أنه لا توجد أي ضمانة حقيقية لنجاح نتنياهو في الإفلات من المساءلة.
وأوضح أن كل الأوراق التي يستخدمها نتنياهو—بما فيها تدخل الرئيس الأميركي لمطالبته بمنحه عفوًا رسميًا—ليست كافية أمام حجم الإخفاقات التي وقعت، ولا أمام التأثيرات المستقبلية الكبرى على المشروع الاحتلالي الاستيطاني ككل.
ويضيف أن نتنياهو معروف داخل "إسرائيل" بأنه "ثعلب السياسة"، الرجل الذي تمكن من الإطاحة بكل خصومه السياسيين وإضعاف المعارضة، بل وإزاحة أقرب حلفائه، مثل غانتس وآخرين من داخل مجلس الحرب، ودفعهم خارج المشهد السياسي. ورغم ذلك، يرى بشارات أن البيئة السياسية الإسرائيلية نفسها تمنح نتنياهو هامشًا إضافيًا؛ إذ تواجه "إسرائيل" معضلة حقيقية تتمثل في غياب قيادة سياسية قادرة على تقديم خطاب متماسك وبرنامج يجمع اليمين المتطرف ضمن رؤية واحدة.
ومن هنا، وفقًا لبشارات يظهر نتنياهو بوصفه السياسي الوحيد الذي تمكن من تشكيل الحكومة الحالية والحفاظ على تماسكها، رغم أنها قائمة على مصالح سياسية بحتة، حيث يمتلك كل طرف داخل الائتلاف رؤيته وأجندته وامتيازاته الخاصة، بينما يجمعهم جميعًا قاسم مشترك واحد: بقاء الحكومة وبقاء نتنياهو في رئاستها. ولهذا، يخلص بشارات إلى أن نتنياهو ما يزال حتى اللحظة "الشخصية الأوفر حظًا" في المشهد السياسي الإسرائيلي، مستفيدًا من غياب البديل، ومن بنية يمينية متطرفة باتت مستعدة لابتلاع كل التناقضات من أجل بقائه.