قائمة الموقع

غزة: هندسة الموت البطيء

2025-11-24T21:34:00+02:00
إسلام شحدة العالول

وكأن كل الطرق، يا سادة، باتت تقودنا إلى غايةٍ واحدة، نُقِشَت ملامحها بالدم والنار: إبادة غزة. تتغير المسميات، وتُغلَّف الآليات الإجرامية بغلاف "ردود الفعل" الكاذبة، ويُبنى مسرح العبث الدبلوماسي على أنقاض أرواحنا، لكن النتيجة تبقى واحدة، دامية، وصامتة: إبادةٌ بلا رقابة، وجريمةٌ بلا محاسبة.

في هذا المشهد السريالي، يقف بنيامين نتنياهو كمهندسٍ بارعٍ لتقويض أي أملٍ بالنجاة. إنه لا يسعى لإنهاء الحرب، بل لإدارة الموت. يحيك خيوط المؤامرة ببرودٍ يُحسد عليه؛ يقبض على الاتفاق ليحصره في مرحلته الأولى، ثم يفرغه من مضمونه، ويرسّخ قواعد اشتباك تمنحه سيفاً مسلطاً، يقطر دماً متى شاء: حرية القصف، والاغتيال، والتوغّل.

لقد فُرض عليه الاتفاق، وهو الآن يعمل على إفشاله خطوة بخطوة، بالابتزاز والتصعيد، واختلاق الذرائع. فمنذ اللحظة الأولى، يحتفظ بسلّة من العراقيل؛ تارةً ملفات الجثامين، وتارةً وقائع غامضة تُلفَّق في رفح، كاشفاً زيف ادعائه بالحرص على جنوده. هدفه لم يكن استعادتهم، بل إفشال كل شيء.

الأمر يتجاوز الرصاصة والصاروخ؛ إنه الخنق الممنهج. يواصل نتنياهو إطباق الحصار، يغلق المعابر، ويحوّل معبر رفح إلى جدارٍ أصمّ. يمنع العائدين، ويقيّد المساعدات، ليبقي القطاع في حالة اختناق إنساني واقتصادي.

وهنا يبلغ العبث ذروته. الاحتلال يغرق سوق غزة بالكماليات؛ تجد الشوكولاتة والنسكافيه في مشهدٍ سريالي يفضح النوايا. لكن في المقابل، يختفي الدواء والغذاء الأساسي وكل أساسيات الحياة، تبحث  عن البيض والأجبان واللحوم والدواجن فلا تجده إلا بأسعار خيالية. المستشفيات والصيدليات تقف عاجزة، خالية من أبسط مقومات الحياة: لا شاش لجرحٍ نازف، ولا مضاد حيوي لعدوى قاتلة.

أيضا لا وجود لأي مواد بناء ولا لأية وسيلة من وسائل الطاقة البديلة.

إنها رسالة واضحة: الموت البطيء مسموح، بل ومطلوب.

في تلك المناطق التي سحقها الدمار، حيث يمتزج ركام البيوت بركام الأرواح، لا يبحث الناس عن طعامٍ فاخر، بل عن جرعة ماءٍ نظيف. الماء، هذا الحق البديهي، تحول إلى حلمٍ بعيد المنال. لا ماء للشرب يروي ظمأ الأطفال، ولا ماء للاستخدام يغسل غبار الموت عن الأجساد المتعبة.

وكيف لجسدٍ مثخنٍ بالجراح أن يتحرك؟ الطرقات، التي كانت يوماً ما شرايين تضخ الحياة في المدينة، هي اليوم عروقٌ مسدودةٌ بالردم واليأس. كل شارعٍ مقطوع هو فصلٌ جديدٌ في عزلة الأحياء، وسجنٌ إضافيٌ يُطبق على الناجين.

لكن الموت لا يأتي من العطش والركام فقط، بل يأتي من الجهل والمرض. لقد توقف التعليم. المدارس، مصانع الأحلام، إما دُمرت أو تحولت إلى مراكز إيواءٍ تضج بالألم. أما المستشفيات، فأغلبها أكوامٌ من الحجارة، وما نجا منها يقف عاجزاً، يراقب الأرواح وهي تتسرب عجزاً لا مرضاً.

وفوق كل هذا، يأتي الخنق الاقتصادي ليُجهز على ما تبقى. لا سيولة نقدية، والعملة التي بين أيدي الناس قد "اهترأت". أوراقٌ باليةٌ ممزقةٌ، ترفضها البنوك المغلقة، ويرفضها التجار. لقد نجحت المصيبة في أن تجعلك فقيراً وأنت تحمل المال في جيبك؛ تملك النقود، لكنها لا تشتري لك شيئاً.

وحتى الخيام، هذا الستر الهش، أصبحت ترفاً. فالمتوفر منها قليل، وما نُصب منها قد اهترأ، تاركاً العائلات بلا سقف. الأسواق "متعطشة" لأبسط الأساسيات، فلم تعد مائدة الغزيّ تعرف طعم اللحوم أو البيض. لقد أصبحنا معزولين عن العالم، وعن بعضنا البعض، حتى أجهزتنا الإلكترونية التي عطبت، لا تجد من يصلحها.

هنا يتجلى المقصود واضحاً كالشمس: إبقاء غزة مدمرةً، وتحويلها إلى بيئةٍ طاردةٍ للإنسان، وإلى قوةٍ مركزيةٍ تدفع أهلها دفعاً نحو الهجرة القسرية.

وقد انكشف المخطط في فضيحة مدوِّية. في جنوب أفريقيا، هبطت طائرة مستأجرة متهالكة، وعلى متنها 153 فلسطينياً بلا أوراق. تم احتجازهم 12 ساعة كاملة بلا طعام أو شراب. التحقيقات كشفت أن منظمة "المجد" المشبوهة، والتابعة لإسرائيل، هي من رتب الرحلة. لقد رافقتهم السلطات الإسرائيلية من غزة إلى مطار رامون، ثم ألقت بهم إلى المجهول.

هؤلاء لم يغادروا، بل كما قال رئيس جنوب أفريقيا: "لقد تم طردهم".

خرج الكيان ببيان خبيث، واصفاً جريمته بأنها "سياسة نبيلة تسمح لمن يرغب بالخروج أن يغادر". أيّ نبالةٍ هذه في خداع العائلات، ونقلها دون ختم على جوازاتها حتى يُقطع طريق العودة نهائياً؟

إنه التطهير العرقي الناعم، الهادئ، المستمر. يغلقون المعبر رسمياً، ليجعلوا الذي يفكر بالهجرة مستعداً لبيع نفسه مقابل الخروج، ثم يديرون شبكات التهجير هذه كجزء من سياستهم.

يعتمد الاحتلال مبدأ التدرج وجس النبض؛ إذا نجحت خطوة، طبّقوا التي تليها. وهدفهم واحد: سحقنا.

إنهم يدركون أن قطاعاً مدمراً بلا تعليم ولا صحة ولا بنية تحتية، ويحتاج لسنواتٍ من الإعمار المستحيل بفعل الحصار، سيصبح قوة طاردة لسكانيه.

لكنهم، في كل مرة، يخطئون في الحساب. قد تُهدم المدن، ويُسحق الحجر، وتُغلق الطرقات، وتهترئ العملة. لكن شيئاً واحداً لا يُهدم، ولا يهترئ، ولا يموت: إنها الإرادة. إرادة الحياة المتجذرة في هذه الأرض، والتي ستنبثق من جديد، كما ينبثق الزرع من بين الركام.

اخبار ذات صلة