تتصاعد السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى السيطرة على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية عبر وسائل متعددة، تبدأ بالاستيطان، وتستمر من خلال إعلان مناطق واسعة محميات طبيعية أو مناطق عسكرية مغلقة، ولا تنتهي عند استخدام المواقع الأثرية ذريعة لانتزاع المزيد من الأرض.
وتكشف هذه السياسات المتجددة محاولات الاحتلال الإسرائيلي لإعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية بما يخدم مشاريعه التوسعية، مع تجاهل تام للقانون الدولي وحقوق السكان الأصليين.
وتعد المواقع الأثرية الفلسطينية من أكثر المناطق استهدافًا، لما تحمله من دلالات تاريخية وحضارية تفند الرواية الإسرائيلية القائمة على ادعاءات توراتية. لذلك يسعى الاحتلال منذ سنوات إلى السيطرة على هذه المواقع وفرض روايته عليها، سواء عبر تغيير المعالم أو منع الفلسطينيين من إدارتها وتطويرها، أو تحويلها إلى نقاط تخدم المشروع الاستيطاني.
ويأتي ما يحدث في بلدة "سبسطية" شمال غرب مدينة نابلس مثالًا واضحًا على هذا النهج.
فخلال الأيام الماضية، برزت محاولة إسرائيلية جديدة تُضاف إلى سجل طويل من سياسات المصادرة والتهويد، تمثلت بإعلان نية الاحتلال الاستيلاء على نحو 1,800 دونم من الأراضي الفلسطينية الخاصة بذريعة "تطوير الموقع الأثري في سبسطية".
ورغم أنّ هذه الذريعة تبدو ثقافية أو سياحية على السطح، إلا أنها تخفي مشروعًا استيطانيًا واسعًا يهدف إلى إحكام السيطرة على المنطقة ومحيطها، كما تؤكد منظمات حقوقية وخبراء فلسطينيون.
مخططات استيطانية
تقع بلدة سبسطية شمال غرب مدينة نابلس، وتُعد واحدة من أهم المواقع الأثرية الفلسطينية، حيث يعود تاريخها إلى العصر البرونزي، وتضم آثارًا رومانية وبيزنطية وإسلامية تشهد على عمق الوجود الفلسطيني في المنطقة عبر آلاف السنين.
ورغم مكانتها التاريخية، لم تسلم البلدة من أطماع الاحتلال الذي يرى فيها موقعًا استراتيجيًا وسياحيًا يمكن توظيفه لخدمة المستوطنات القريبة.
وبحسب صحيفة "هآرتس" العبرية، فقد أصدرت ما تُسمى بـ"الإدارة المدنية" التابعة للاحتلال قرارًا عسكريًا يقضي بمصادرة نحو 1,800 دونم، تشمل الموقع الأثري نفسه، إضافة إلى مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية المحيطة به والتي تحتوي على آلاف أشجار الزيتون.
ويُعد هذا القرار أوسع عملية استيلاء لأغراض أثرية منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، متجاوزًا عملية المصادرة التي جرت في موقع "سوسيا" جنوب الخليل عام 1985 والتي بلغت آنذاك 286 دونمًا.
وفي تعليقها على القرار، قالت منظمة "السلام الآن" الإسرائيلية إن الاحتلال يواصل عبر هذه الخطوة انتهاك القانون الدولي ومصادرة الأراضي الفلسطينية لصالح مخططات استيطانية، رغم أن المنطقة يسكنها عدد قليل من المستوطنين مقابل أكثر من مليون فلسطيني في شمال الضفة الغربية.
وأكدت المنظمة أن سبسطية موقع تراثي فلسطيني يقع داخل حدود القرية ويُعد جزءًا من الدولة الفلسطينية المستقبلية، محذّرة من أن الجشع الاستيطاني يهدد السكان الفلسطينيين ويقوّض أي إمكانية لحل سياسي.
ذرائع الاحتلال
ويرى الخبير في شؤون الاستيطان سهيل خليلية أن القرار الإسرائيلي الجديد ينسجم مع سياسة إسرائيلية متواصلة للسيطرة على المواقع الأثرية في المناطق المصنفة (ج).
وأكد خليلية لـ"فلسطين" أن الاحتلال يستخدم الذرائع ذاتها منذ سنوات لانتزاع الأراضي، سواء عبر إعلانها محميات طبيعية أو مناطق عسكرية مغلقة، وصولًا إلى الادعاء بأن السيطرة ضرورية لحماية الآثار أو تطوير المواقع السياحية.
وأوضح خليلية أن مساحة الأراضي التي يعتزم الاحتلال مصادرتها في سبسطية تفوق بكثير مساحة الموقع الأثري الفعلي، ما يؤكد أن الهدف الحقيقي ليس التنمية أو الحماية، بل التمدد الاستيطاني وضم المنطقة إلى مجلس المستوطنات المحيطة بنابلس.
وأشار إلى أن سلطات الاحتلال تجاهلت مؤخرًا تخصيص نحو 40 مليون شيكل لتطوير المواقع الأثرية في الضفة، ما يشير إلى أن اهتمامها بالآثار مجرد ذريعة وليست سياسة تطوير حقيقية.
ويحذر الخبير من أن الاحتلال وضع منذ سنوات منطقة سبسطية نصب عينيه لما تمثله من أهمية استراتيجية للمستوطنين القريبين منها، ولذلك يسعى إلى فرض سيطرته عليها تدريجيًا، محولًا المواقع الأثرية الفلسطينية إلى أدوات تعزز وجوده على الأرض وتسلب الفلسطينيين حقوقهم التاريخية والقانونية.
طمس الهوية
أما الخبير في شؤون الاستيطان نصفت الخفش، فيرى أن الاحتلال لا يفوّت أي فرصة للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، سواء كانت زراعية أو خالية أو أثرية.
وقال الخفش لـ"فلسطين" إن ذريعة تطوير موقع سبسطية الأثري ليست سوى محاولة لتزوير التاريخ وتسويق رواية إسرائيلية مزيفة للعالم، تهدف إلى إلغاء الوجود الفلسطيني وإخفاء ارتباطه التاريخي بالأرض.
ويرى الخفش أن مصادرة 1,800 دونم من أراضي سبسطية خطوة عدوانية تُضاف إلى سلسلة طويلة من السياسات الإسرائيلية الرامية إلى تغيير المعالم التاريخية والحضارية، مشيرًا إلى أن الاحتلال يسعى لإعادة صياغة الجغرافيا والذاكرة الفلسطينية عبر السيطرة على المواقع الأثرية وتغيير معالمها.
ودعا الخفش الفلسطينيين بكل فئاتهم إلى مواجهة هذه السياسات وفضحها على المستويين الرسمي والشعبي، وحثّ دول العالم على الضغط على الاحتلال لوقف اعتداءاته وجرائمه التي تطال البشر والحجر.
وطالب المجتمع الدولي بالانتصار للعدالة والقانون الدولي وفرض عقوبات على الحكومة الإسرائيلية التي تواصل سياساتها العنصرية، فيما تتعرض القرى والمدن الفلسطينية لهجمات مستمرة من قبل مجموعات المستوطنين بحماية مباشرة من جيش الاحتلال وشرطته.