"كان لدي القدرة على السير واللعب مع أشقائي وصديقاتي، والآن صار جسدي مقيد بسرير المستشفى." قالت الطفلة لمار طوطح هذه الكلمات بصوت مبحوح دلَّ على ألم كبير يعتمل قلبها منذ إصابتها برصاصة إسرائيلية إبَّان حرب الإبادة الجماعية.
في إحدى زوايا مستشفى الوفاء للتأهيل الطبي والجراحات التخصصية، وسط مدينة غزة، ترقد الطفلة البالغة (12 عامًا)، صامتة مثل ليل غزة، يهيمن عليها الكثير من الخوف بعدما فقدت القدرة على السير مجددًا.
في خضَّم الحرب التي بدأها جيش الاحتلال في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وامتدت سنتين، وما رافقها من تفاصيل مؤلمة وفقد وحرمان وجوع ونزوح، مرت الطفلة وعائلتها بظروف مأساوية لم تعهدها من قبل.
فالطفلة وعائلتها التي تسكن في حي الزيتون المدمر، جنوبي مدينة غزة، أجبرت وسكان الحي على تركه تحت وطأة الحرب وقصف الأحياء المدنية، والنزوح إلى مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة.
"اعتقدنا في البداية أننا لجأنا إلى مكان آمن، لكن الاحتلال لم يترك للأمان أي وجود، والمناطق الإنسانية كانت أكذوبة كبيرة." أضافت لمار لصحيفة "فلسطين".
فقبل إصابتها، كانت الطفلة تملأ حياة عائلتها مرحًا، ينظر إليها والداها بكثير من الحب والأمل، وهي تركض وتلعب مع أشقائها وصديقاتها، ويتطاير شعرها الأشقر من ورائها. لكنهما الآن ينظران إليها بعيون دامعة وقلبان مثقلان بالآلام والخوف على مستقبل ابنتهم.
ولمار، هي واحدة من 8 أشقاء، بينهم 5 ذكور و3 إناث، أكبرهم عدي (13 عامًا) وأصغرهن ماسة، وتبلغ عامًا ونصف. كانوا جميعًا يعيشون حياة ليست مليئة بالترف في منزل متواضع، لكنها كانت كافية أن تجعلهم سعداء.
إلا أن الحرب الدموية التي تسببت باستشهاد قرابة 70 ألف مواطن، بينهم أكثر من 30 ألفًا من الأطفال والنساء، حرمت العائلة من الأجواء الجميلة التي كانت تعيشها. "دائمًا كنت ألعب ساعات طويلة مع أشقائي، إلى أن جاءت الحرب وغيرت معالم حياتنا، وأصبح اللعب وأجوائنا الجميلة مجرد ذكريات." تابعت لمار، وبدت الحيرة في عينيها.
أما عن ظروف إصابتها يوم 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، تقول: "كنت مع أفراد عائلتي عندما سمعنا إطلاق نار من الطائرات المسيرة وآليات جيش الاحتلال القريبة من مخيم النصيرات."
فجأة وعلى حين غَرَّة، سقطت الطفلة أرضًا بقوة، وبدأت تنزف الدماء بشدة بعدما اخترقت رصاصة إسرائيلية جسدها الغضّ. اكتشف الأطباء لاحقًا أنها أصابت الفقرة الخامسة من العمود الفقاري مباشرة، وسببت تلفًا في النخاع الشوكي.
ومنذ ذلك الحين، بدأت حكاية ألم لم تكتب نهايتها بعد بالنسبة للطفلة الجريحة، حكاية عنوانها الشلل النصفي.
لم تنته معاناة الطفلة عند هذا الحد، ففي أغسطس/ آب 2025، وبينما كانت العائلة تتواجد في منزلها بحي الزيتون بعد رحلة نزوح طويلة استمرت أكثر من عام وسط قطاع غزة، أجبرت عائلة الطفلة على مغادرة منزلها مجددًا خشية على حياة أفرادها بعدما بلغ القصف الإسرائيلي ذروته مجددًا على الحي.
ما إن حاول محمد طوطح (35 عامًا)، إنقاذ ابنته المقعدة ورفعها ليركض بها فوق الركام الذي يملأ الطرقات بعد قصف منزل مجاور، سقط أرضًا عندما كان يحملها ما سبب لها كسورًا حادة في ساقها اليمنى، أجبرت الأطباء على تثبيت قضبان بلاتين، ستبقى مزروعة في جسدها لأشهر طويلة.
وبعد سنة على إصابتها بالشلل، تبدو الطفلة لمار شاحبة الملامح، نحيفة الجسد، يهيمن على وجهها الخوف على مستقبلها المقيد كجسدها بأسرَّة العلاج، ولسان حالها يسأل: "ما الذنب الذي فعلته؟"
بين الأروقة الضيفة لمستشفى الوفاء، يتناوب الأطباء والممرضين على متابعة لمار ومراقبة حالتها بعدما استقرت في نظر الطب، ولم يعد بوسعهم فعل شيء آخر أو مساعدتها على السير مجددًا، فيما تملأ التقرحات جسدها بسبب المكوث الطويل على أسرَّة العلاج.
لكن الجريحة لمار، ورغم مأساة الإصابة القاتلة، لم تفقد الأمل بأن تحظى بفرصة علاج خارج قطاع غزة. "لم أريد شيئًا سوى أن أسير وأتحرك لوحدي، أريد اللعب مجددًا مع أشقائي وشقيقاتي. اشتقت كثيرًا لأجوائنا الجميلة."