في المساء كنت أخرج الشبابة، وأنا جالس على سريري في سجن نفحة الصحراوي، وأعزف عليها دقائق، فإذا انتبه السجان، وتحرك في الممر؛ ألتزم الصمت، وأخفيها.
ظلت شبابتي في مأمن حتى يوم الاستقلال 15/11/1988م، حين قرر السجناء في سجن نفحة أن ينصبوا حلقة دبكة في ساحة السجن، فرحًا بإعلان الاستقلال، يومها أخرجت الشبابة، وعزفت "على دلعونا على دلعونا"، في وسط ساحة سجن نفحة، فغنى السجناء لفلسطين، ودبكوا على أنغام الشبابة بفرح لا يوصف، وكان الأخ الرائع الفاضل ياسر الأغا أبو غانم قد أخفى تحت ثوبه مسجلًا مهربًا، وراح يسجل صوت الشبابة وأغاني السجناء، كي يهربها إلى خارج السجن.
كان رقص السجناء مزيجًا من الفرح العام بالاستقلال، والفرح الشخصي، على افتراض أن قيام الدولة سيعد السجناء أسرى حرب، وأن الحرية من السجن لكل السجناء قاب قوسين أو أدنى، فكان الفرح مضاعفًا، والرقص بحرارة الحرية.
لا يختلف كثيرًا فرح السجناء في ذلك اليوم عن فرح سكان قطاع غزة هذه الأيام، حين حلموا بالمعبر والرواتب والكهرباء والعلاج لمجرد توقيع اتفاقية المصالحة.
كان السجناء في قمة الفرح حين دخل مدير سجن نفحة إلى الباحة، ومن خلفه الحراس، وطالب بإسكات الفرحة، وإنهاء مظاهر الاحتفال.
تصدى لمدير السجن ممثل المعتقل أحمد شريم أبو هزاع (رحمه الله)، ومجموعة من الشباب، منهم الصديق حرب الغصين، الذي راح يصرخ على مدير سجن نفحة: "شلوم، شلوم، شلوم، نحن نغني للشالوم، لقد أعلنا قيام الدولة في الجزائر"، وأضاف حرب الغصين بلهجته البدوية: "الله يعثرك من مدير سجن، أنت ما تفهم شالوم؟!".
وقف مدير السجن جانبًا، بعد أن استوعب الوضع، وراح يراقب السجناء وهم يرقصون ويغنون ويصهلون، وقال جملته المشهورة: "السلام هنالك في الجزائر، أما هنا على أرض السجن فأنتم على وفق القانون مخربون، عليكم الالتزام بكل قوانين السجن".
بعد العصر أرسل ممثل المعتقل أحد عمال الممر، وطلب مني تسليم الشبابة، فمدير سجن نفحة يصر على أن نسلم الشبابة، فهي من الممنوعات.
بعد 29 عامًا من إعلان الاستقلال لما تزل مصلحة السجون الإسرائيلية تتعامل مع آلاف الأسرى الفلسطينيين والعرب على أنهم مخربون، إرهابيون، ولما يزل لسان حال الأسرى في السجون الإسرائيلية يقول للقيادة الفلسطينية:
خذوا إعلانكم الدولة المستقلة، وهاتوا لنا أغنياتنا، هاتوا لي شبابتنا، هاتوا لنا أعمارنا.