منذ أن أعلنت الولايات المتحدة نيتها تشكيل قوة دولية في قطاع غزة، تصاعدت الشكوك بشأن حقيقة هذه الخطوة التي تبدو في ظاهرها "إنسانية وأمنية،" لكنها في جوهرها – كما يرى محللون – محاولة لتكريس وصاية جديدة على القطاع تحت غطاء الشرعية الدولية، وبما يخدم الرؤية الأمريكية–الإسرائيلية لإعادة صياغة المشهد الفلسطيني.
فالمشروع الأمريكي، الذي قدمته واشنطن إلى مجلس الأمن، ينص على إنشاء "قوة استقرار دولية" تعمل لمدة عامين قابلة للتمديد، لتتولى تأمين الحدود مع (إسرائيل) ومصر، وحماية الممرات الإنسانية، وتدريب شرطة فلسطينية جديدة، وصولاً إلى نزع سلاح المقاومة وتدمير بنيتها العسكرية.
لكن وراء هذه الأهداف المعلنة، تُطرح تساؤلات حقيقية حول المرجعية السياسية لهذه القوة، خصوصًا بعد الكشف عن نية إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إنشاء ما يسمى "مجلس السلام" الذي سيتولى الإشراف الفعلي على عملها خارج إطار الأمم المتحدة، بمشاركة شخصيات غربية مثل توني بلير.
محاولة فرض واقع جديد
يرى الباحث والأكاديمي في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، د. حسن منيمنة، أن المشروع الأمريكي لإنشاء قوة دولية في قطاع غزة ليس خطوة جادة نحو التسوية، بل هو في جوهره "أسلوب جديد من الحرب يُمارس تحت غطاء السلام".
ويقول منيمنة لصحيفة "فلسطين"، إن الحديث عن قوة دولية لتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار في غزة "سابق لأوانه"، لأن الخطة الأمريكية لا تزال تفتقر إلى توافق على المرجعية أو المهمة، إذ أن الولايات المتحدة و(إسرائيل) ترفضان أن تكون هذه القوة ذات مرجعية أممية تخضع لتفويض من مجلس الأمن أو للفصل السابع، بل تريدان أن تقوم على قرار ذاتي وتحالف أمريكي-إسرائيلي يمنح (إسرائيل) حق إدارة الملف ميدانيًا وسياسيًا.
ويضيف: أن "المطلب الإسرائيلي – الأمريكي أصبح ثابتًا: لا مرجعية دولية للقوة، بل تفويض ذاتي، بحيث يكتفي مجلس الأمن بالتأطير أو المباركة دون أن يمنحها شرعية قانونية ملزمة"، مشيرًا إلى أن ما يسمى بـ"قوة دولية" في الخطاب الأمريكي ليست "قوة حفظ سلام" بل "قوة إنفاذ"، مهمتها كما ورد في المسودة: "نزع سلاح غزة وتدمير البنية التحتية العسكرية لفصائل المقاومة ومنع إعادة بنائها"، أي أنها عمليًا "ستقاتل حماس" وتفرض واقعًا جديدًا بالقوة.
تكامل أمريكي–إسرائيلي
ويشدد على أن ما يجري ليس تناقضًا بين الموقفين الأمريكي والإسرائيلي، بل تكامل كامل، مستشهدًا بتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه عن خطته بحضور بنيامين نتنياهو، حين قال صراحة إن "لـ(إسرائيل) حق النقض في أي تفصيل من تفاصيل التنفيذ".
ويتابع: "الولايات المتحدة قد تقترح وتدفع وتحاول الإقناع، ولكن إن لم توافق (إسرائيل)، فالمسؤولية تُلقى على حماس التي تُتهم بإفشال الصفقة.. هذه المعادلة تُختصر بواقع بسيط: واشنطن تفوض (إسرائيل) لتفعل ما تراه مناسبًا لمصلحتها".
ويرى الباحث السياسي، أن هذا التفويض هو جوهر التحالف بين الطرفين، مشيرًا إلى أن (إسرائيل) لا تكتفي بالموافقة على الخطة، بل تمارس فعليًا حق الفيتو على الدول المشاركة في القوة المقترحة، فتستبعد مثلًا تركيا وباكستان وماليزيا وقطر، وكل دولة لا تراها قابلة للتطويع أو التحكم بها.
وعن الدول التي أبدت استعدادها للمشاركة في القوة، يقول منيمنة إنها "تدرك تمامًا طبيعة المناورة الأمريكية الإسرائيلية المشتركة"، لكنها تحاول الدخول في الهامش الضيق المتاح، إما لتخفيف المعاناة الإنسانية عن الفلسطينيين، أو لتحقيق بعض التأثير المحدود.
ويشير إلى أن بعض هذه الدول ترى في المشاركة فرصة لخلق توازن نسبي أو تحسين صورتها أمام الإدارة الأمريكية، بينما أخرى تراهن على "تحقيق بعض الممكن"، كما فعلت قطر في مرات سابقة، حين تمكنت من انتزاع اعتذار إسرائيلي نتيجة تدخلها السياسي.
"هذه الدول لا تعيش وهم القدرة على تغيير طبيعة التحالف الأمريكي الإسرائيلي، لكنها تحاول أن تلعب ضمن الهامش المتاح، لإحداث بعض التعديلات الشكلية، لا أكثر"، يقول منيمنة، مؤكدًا أن الانسجام بين واشنطن و(تل أبيب) سيبقى قائمًا لضمان بقاء القرار بيد (إسرائيل).
احتلال جديد
من جانبه، يرى مدير المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات)، د. هاني المصري، أن المشروع الأمريكي بصيغته الحالية "يفتح الباب أمام احتلال جديد للقطاع بغطاء شرعية دولية".
ويقول المصري في مقالة نشرها، إن "مجلس الأمن، الذي يُفترض أن يمنح الشرعية لوجود هذه القوة، لن يكون هو المرجعية العليا لها، بل ما يسمى بـ"مجلس السلام" الذي سيقوده دونالد ترامب بمساعدة طوني بلير وآخرين، ما يعني أن "مجلس السلام" سيكون الحاكم الفعلي على الأرض، وليس مجلس الأمن، وسيُمنح ل"قوة الاستقرار" السلطة لـ"فرض الأمن" وللحكم وليس لحفظ السلام.
ويضيف أن الفلسطينيين لن يشاركوا فعليًا في هذه الترتيبات إلا بعد تنفيذ "برنامج إصلاحي مرضٍ" للولايات المتحدة و(إسرائيل)، أي أنهم سيكونون مجرد منفذين بلا سيادة ولا قرار، وهو ما يشكل خطرًا على وحدة التمثيل الفلسطيني وعلى مكانة منظمة التحرير.
ويتابع المصري بالقول: "هذه الصيغة الخطيرة ستعيد تعريف القضية الفلسطينية على أنها "قضية إنسانية وأمنية فقط"، لا قضية تحرر وطني، وستحوّل الشعب الفلسطيني إلى أفراد بلا عنوان سياسي جامع، وتفتح الباب أمام صراعات داخلية جديدة، وربما مواجهة مباشرة مع القوة الأممية ذاتها".
ويجمع كل من منيمنة والمصري على أن الخطة الأمريكية، بما تحمله من تفاصيل غامضة ومرونة مقصودة في المدد الزمنية، تهدف إلى "إدامة حالة السيطرة غير المباشرة" على غزة، عبر ترتيبات أمنية طويلة الأمد.
فالمدة المقترحة لعامين قابلة للتجديد، كما يقول المصري، "قد تمتد فعليًا لسنوات أو حتى عقد كامل، طالما بقيت كلمة "مرضي" مرهونة بتقييم واشنطن و(تل أبيب)، الأمر الذي يعني عمليًا تحويل غزة إلى منطقة وصاية دولية مفتوحة.
ويخلص المصري إلى أن مسودة القرار بصيغتها الحالية ضارة جدًا بالقضية الفلسطينية، لأنها تمنح شرعية دولية لصيغة وصاية استعمارية جديدة أو بالأحرى لاحتلال مقنّع بالشرعية الدولية، مشددًا على ضرورة التمسك بإجراء تعديلات جوهرية على مسودة القرار، ورفض الابتزاز الأمريكي ـ الإسرائيلي، الذي يحاول فرض معادلة خادعة: إما القبول بالمسودة كما هي مع تعديلات شكلية، أو منح حكومة اليمين الإسرائيلي الضوء الأخضر لاستئناف الحرب.