فلسطين أون لاين

يتلقيانِ العلاج على سريرَيْن مُتباعدَيْن.. لغمٌ حربي يَختطفُ حياة التوأميْن الشرباصي

...
لغمٌ حربي يَختطفُ حياة التوأميْن الشرباصي
غزة/ أدهم الشريف

بين أنَّات الجرحى والمصابين، وفي غرف المستشفيات حيث تتردد أصوات أجهزة التنفس، يتناوب محمد الشرباصي وزوجته لطيفة، على تفقد ابنيهما التوأمين يحيى ونبيلة، اللذين يخضعان للعلاج منذ إصابتهما بانفجار جسم مشبوه من مخلفات الحرب الإسرائيلية على غزة.

يمضي الأبوان طيلة يومهما وهما يتنقلان بين مجمع الشفاء الطبي، حيث يرقد يحيى في قسم الجراحة، بينما يرقد نصفه الآخر شقيقته نبيلة على أسرَّة العناية المكثفة داخل مستشفى أصدقاء المريض. وكلا المستشفيان يقعان في مدينة غزة، ويفصل بينهما مئات الأمتار.

تبدو آثار الخوف والقلق جليَّة على والدي التوأمين الذين يغصَّان في نوم عميق في معظم الوقت، تحت تأثير المخدر بعدما خضعا لسلسلة عمليات جراحية أجراها لهما الأطباء لإنقاذ حياتهما.

"لا أعرف كيف حدث ذلك؟ لقد بذلت جهدًا كبيرًا خلال الحرب للحفاظ عليهما من بطش الاحتلال، لكن القتل لا يتوقف بمجرد انتهاء الحرب." قال والد التوأمين قبل أن يمسح دموع حارة انسكبت على خديه.

صباح يوم الجمعة، 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، رافق يحيى ونبيلة بعضهما بعد أن حصلا على مصروفهما اليومي لشراء بعض الحاجيات من بقالة قريبة من منزلهما الكائن في شارع الجلاء، وسط مدينة غزة.

5765062609638984489.jpg

كان الوالدان مطمئنان إلى حدٍ ما، فقد مضت بضعة أيام على إعلان اتفاق وقف إطلاق النار، الذي دخل حيز التنفيذ يوم 10 أكتوبر بعد سنتين من القتل والإبادة، لكنهما لم يعرفا أن قارعة الطريق وبين ركام المنازل المدمرة، ينتشر بقايا موت متنكر تركه جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي كمخلفات حرب.

عندما كان التوأمين البالغيْن (6 أعوام) يسيران معًا، شدَّ بصرهما جسم مشبوه بدا للوهلة الأولى لعبة أطفال، ما إن حمله يحيى عندما كانت شقيقته بجواره، انفجر في وجههما دون رحمة.

دوى صوت الانفجار العنيف عاليًا، وألقى الطفلين عدة أمتار أمام بوابة منزلهما. "خرجت بسرعة إلى البوابة وجدتهما ينزفان بشدة. في البداية اعتقدت أن طائرة حربية إسرائيلية بدون طيار ألقت قنبلة على المكان، ولاحقًا اكتشفت أن الانفجار كان بسبب مخلفات الحرب." أضاف الشرباصي لـ "فلسطين أون لاين"، وهي حكي تفاصيل الحادثة.

عندها، بدأ والد الطفلين يصرخ لكن مشهد الدماء أسكته وأدخله في صدمة كبيرة. ولم تمضِ سوى دقائق معدودة حتى وصل المسعفون، وجدوا التوأمين ملقيين على الأرض، غارقين في دمائهما. بينما كانت نبيلة تصرخ من شدة الآلام، فقد يحيى وعيه تمامًا، واستطاع المسعفون الوصول بهما سريعًا إلى مجمع الشفاء، لتبدأ حكاية الألم الطويل الذي لا يهدأ.

5765062609638984493.jpg


وهناك، أخضع الأطباء يحيى لعميات جراحية لإنقاذ حياته، فيما قرروا نقل نبيلة إلى مستشفى أصدقاء المريض بعدما ساءت حالتها الصحية، وصارت بحاجة إلى عناية مكثفة.

في قسم الجراحة بمجمع الشفاء، تتناثر حول سرير يحيى الأدوات الطبية، وأنابيب المغذّيات، فيما تغطي الضمادات معظم جسده النحيف. "الأطباء أخبرونا أن جروحه خطيرة رغم خضوعه لعمليات جراحية دقيقة." يقول الشرباصي وهو يحدق في وجه طفله الذي اخترقته شظايا صغيرة وتركت ندوبًا لم تندمل.

وخلال العمليات الجراحية، استأصل الأطباء "الزايدة" من بطن يحيى، وبتروا يده اليمنى التي لم تصمد أمام الشظايا الملتهبة، فيما أصيب أيضًا بتهتك شديد في ساقه اليمنى، أدت إلى ظهور العظم بعدما صهرتها حرارة الانفجار.

عندما تفتح عيناه بثقل شديد، يرافقها بكاء مستمر، ينظر يحيى إلى والده وأقاربه من حوله. يسأل بصوت يحمل الكثير من الألم: "أين أختي؟" فلا يجرؤ أحد على إخباره أن شقيقته ترقد في العناية المكثفة في مستشفى آخر، تحاول أجهزة التنفس الاصطناعي أن تبقيها على قيد الحياة.

على أسرَّة مستشفى أصدقاء المريض، ترقد نبيلة على سرير أبيض تحيط بها الأنابيب. تغطي الضمادات واللفافات البيضاء غالبية جسدها الصغير الموصول بأنبوب نحيل ينقل لها قطرات الدواء، فيما يراقب الأطباء مؤشرات حالتها على شاشة صغيرة.

عندما تقترب الأم لطيفة البالغة (29 عامًا)، من سرير ابنتها تسمع صوت صفارات الأجهزة الطبية أكثر من صوتها. بين الفينة والأخرى تفيق الطفلة من سباتها العميق، تصرخ بشدة فيهرع لها الأطباء، وكأنها في سباق مع الموت.

تقف الأم عاجزة أمام مأساة صغيرتها المدللة، بعد إصابتها بشظايا في أنحاء جسدها، أدت إلى بتر اصبعين من اليد اليسرى، واصبعًا واحدًا في اليد اليمنى، وندوب حادة في أنحاء وجهها المدور، واستئصال أجزاء من الأمعاء.

لكنها تبدو مطمئنة قليلاً بعدما أخبرها الأطباء في مستشفى أصدقاء المريض، أن نبيلة تجاوزت مرحلة الخطر.

بالقرب من سرير نبيلة، يسمح الأطباء للأم بزيارة ابنتها لدقائق معدودة، تحكي معها وهي نائمة وكأنها تخاطف الحياة ذاتها نفسها "أفيقي يا صغيرتي.. أحضرت لكِ الفستان الذي تحبينه. سألسبه لكِ قريبًا." ثم تسند رأسها بيدها وتحدق فيمن حولها وكأنها تبحث عن أمل مفقود.

عندما تطمئن الأم على ابنتها نبيلة، يأتي دورها لزيارة توأمها يحيى، فتخرج مسرعة برفقة زوجها إلى مجمع الشفاء. في الطريق بين المستشفييْن، يختلط وجع الأم بقلق الأب الذي فقد قدرته على الكلام، واكتفى بذرف الدموع على حال طفليه.

وللتوأمين يحيى ونبيلة، شقيقتان أكبر منهما سنًا، منى (10 أعوام) جنى (7 أعوام)، يفتقدان شقيقيهما الجريحين منذ إصابتهما في انفجار مخلفات جيش الاحتلال، ولم يتمكنَّ من زيارتهما بسبب حالتهما الصحية.

كانت العائلة المكونة من 6 أفراد، وتقطن في منزل متواضع، تعيش حياة ليست مليئة بالترف والرفاهية، لكنها كانت كافية أن تجعلهم سعداء، إلى أن جاءت الحرب الإسرائيلية، لتختطف حياة اثنين من صغارها، وتشتت شملها بين أقسام المستشفيات.

أما الأمل الأكبر لوالدي التوأمين الجريحين، صار الحصول على الحق في العلاج، وتمكينهما من السفر إلى خارج غزة، لكن ذلك يبدو حلمًا بعيد المنال بسبب إجراءات المنع الإسرائيلي، وتعمد الاحتلال عدم فتح معبر رفح أمام الجرحى والمصابين بنيرانه!

ينهي الوالدان يومهما بين المستشفيات، ثم يعودان مرهقان إلى منزلهما، يتساءلان "ما ذنب التوأمين ليحدث هذا لهما؟ هما فقط أرادا الذهاب إلى البقالة."

 

المصدر / فلسطين أون لاين