بعد ان وضعت الحرب اوزارها، وسكنت اصوات القنابل في غزة، لم تهدأ الاسئلة التي تعصف بضمير كل عربي، فالمشهد هناك لم يكن مجرد صراع عسكري عابر، بل لحظة انكشاف كبرى، كشفت عن وجه العالم، وعن مواقف الامم، وعن عمق الهوة التي تفصل بين الشعارات والافعال، ومن يندهش من فعل هذه البقعة المحاصرة فهو لا يعرفها، او يرفض ان يرى ما وراء الدخان والرماد، لان المقاومة لم تكن ردة فعل عاطفية، بل فعل ايماني نادر في زمن السقوط الجماعي.
غزة لم تقاتل لتسجل نصرا عسكريا في سجلات الحروب، رغم انها سجلت ذلك منذ اليوم الأول، بل لتمنع سقوط الامة في وحل العار، قاتلت وحدها امام حلف عالمي انخرط فيه الغرب بكل ادواته من سلاح واعلام ومال وضغط دبلوماسي، وتواطأ فيه كثير من انظمة العرب والمسلمين، بالصمت والتبرير، بل وبالخيانة العلنية أحيانا، وسخر اعلامهم لتشويه الضحية، واقلامهم لتبرير القتل، وتبرئة الجلاد، حتى صار المشهد مشوها الى حد العبث؛ مدينة صغيرة محاصرة تواجه عالما كاملا يريد كسر ارادتها، لا لشيء سوى لأنها قالت "لا".
كانت الحرب على هناك امتحانا اخلاقيا قبل ان تكون معركة عسكرية، امتحانا للعالم الذي فقد بوصلته الاخلاقية، ولامة فقدت شجاعتها، فبينما كانت القنابل تنهال على البيوت والمدارس والمستشفيات، كانت العواصم تتقن الصمت، والقمم تصدر بيانات باردة لا تردع ظالما ولا تنقذ طفلا، في تلك اللحظة، سقطت كل الاقنعة، وبدت العروبة عارية تماما امام الدم الفلسطيني الذي نزف في الشوارع دون ان يجد نصيرا.
ومع ذلك، غزة لم تنكسر، بل كسرت معنى الهزيمة ذاتها، فالهزيمة الحقيقية ليست في خسارة مدينة او سقوط برج، بل في استسلام الروح، فصارت روح العالم وبوصلة كل حر فيه، لم تستسلم، بل لقنت العالم درسا في الصبر والصمود والكرامة، وحتى حين انطفأت الاضواء وانقطعت الانفاس، ظلت الشموع تنير ازقتها، وظل الاطفال يغنون وسط الركام، وظل المقاتلون يخرجون من تحت الرماد، كفكرة تستعصي على الموت، فكانت ارادتهم اقوى من الحصار، وصمودهم ابلغ من كل قول.
ظن الاحتلال انه بإجرامه وعدوانه يحطم الجسد، وفاته انه كان يزرع الروح في الملايين، فكل صاروخ سقط فوق غزة ايقظ وعيا نائما، وكل مشهد دمار اشعل سؤالا في ضمير الإنسانية، لم يكن هدف الاحتلال قتل المقاتلين فقط، بل كسر الفكرة التي جعلت من غزة رمزا، لكنه فشل، بل وبالعكس، كلما زاد القصف، ازدادت الفكرة وضوحا وتوهجا، وسيبقى للعالم ان يتأمل تلك المدينة الصغيرة التي واجهت الجميع بصدور مكشوفة وقلوب مطمئنة وبما اوتيت من قوة، لتقول من بين الركام؛ هذه الامة لم تمت ما بقي فيها بقية، وشق نورها مزيدا من الظلام.
جيش الاحتلال لم ينتصر، حتى وان ادعى ذلك، لان النصر لا يقاس بعدد الشهداء ولا بحجم الدمار، بل بما يخلد في الذاكرة، وهي قد تركت في الذاكرة ما لا يمحى بالنار والحديد؛ وقدمت دروسا في الصمود، من امرأة تمسك بيد طفلها على حدود الموت، الى شاب يبتسم وهو يودع رفاقه، ومدينة تصلي بين قصفين، تلك الصور وحدها اسقطت سردية القوة، وكشفت هشاشة رواية الاحتلال امام صدق الدم وسمو المعنى.
اما من يحمل المقاومة مسؤولية المأساة، فهو اما غافل او شريك، فلو سكتت غزة، لكانت فلسطين اليوم ذكرى منسية في كتب التاريخ، ولكانت الامة كلها رهينة الخوف والاستسلام، صمودها الاسطوري هو الذي اعاد تعريف الكرامة، واعاد لامة العرب شيئا من وجوههم التي كادت تنسى ملامحها تحت رماد التطبيع والخضوع.
نعم، الحرب انتهت على الورق، لكن معركتها الحقيقية بدأت في الوعي، وهذا ما يخشاه الاحتلال ومعه كل من انحاز اليه، اكثر من صواريخ غزة؛ الفكرة التي خلدتها، واليقين الذي بثته في العقول، بان ارادة الشعوب اقوى من كل جيوش الأرض، قد تهدم البيوت وتمحى الشوارع والاحياء، لكن احدا لا يستطيع ان يهدم الفكرة التي ولدت من تحت الركام لتقول، هذه الامة لم تمت، حتى وان طال سباتها.
غزة لم تطلب الا ان ينظر اليها كما هي، صاحبة حق، واهل لان تعيش حرة كريمة، تتنفس بلا قيد، وتتحرك بلا رقيب، فتحولت الى خط الدفاع الاخير عن معنى الانسان في هذا الشرق المكسور، ونقطة الضوء التي تذكرنا ان الحرية لا تستجدى بل تنتزع، وحين ينجلي غبار المعركة، سيسال التاريخ والجيل القادم كل من صمت او تواطأ وخان: اين كنت يوم وقفت غزة وحدها تواجه العالم؟

