فلسطين أون لاين

#رسالة_قرآنية_من_محرقة_غزة

{إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} الأحزاب10

تدافعت جيوش الإبادة على غزة كما تتدافع أمواج القيامة في ليلة بلا فجر. مئات الآلاف من جنودٍ لا يعرفون سوى الخراب، جيشٌ يزعم اسمه "الدفاع" وهو لا يحمل في حقائبه إلا برامج المجازر وسيناريوهات الترويع. وحدهم الاحتياط—مئتان وخمسةٌ وتسعون ألفًا—يأتون كما لو أنهم سيغلقون أبواب السماء على غزة الصغيرة، يريدون سحقها حجراً وبشراً، يحيون سياسة النكبة ذاتها: المجازر من أجل التهجير، والخوف وقودًا للإبادة. يا لها من أيّامٍ جافة قاسية، تعيد للذاكرة صليل الخندق وأحزاب قريش، حين كان الصحابة يرون الأرض تضيق بما رحبت.

وأنا أروي لكم حكاية اليوم، أسمع رجع آية الخندق يتردّد في الأزقة:

{إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}.

اليوم يلتف الأحزاب من جديد، لكن غزة وحدها على ثغرٍ بلا نبيٍ يوحى إليه، وحدها في بردٍ وجوعٍ ودمٍ ومرض، ومع ذلك لا يظن أهلها بربهم إلا الظن الحسن.

أصوات الدبابات لا تترك للهواء مكانًا، تفرم الأرض فرمًا، ترشّ القذائف كما يُرشّ المطر، والبيوت تهوي على ساكنيها كأوراق خريف دامٍ. في الأزقة يتطاير لحم الأطفال مع الحجارة، وتتصاعد الصرخات إلى حيث لا تبلغ إلا أبواب السماء. حتى جنودهم، تقول ألسنة إعلامهم، تلتهمهم نيرانهم "الصديقة"؛ خمسةٌ وثلاثون بالمئة من قتلاهم ذابوا برصاص بعضهم. {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].

في قلب الغبار، تعلو أصوات البشر كأنها شقوق في صمت القيامة:

– "يمّا… وينك؟" تصرخ طفلةٌ تائهة بين الركام، يختلط صوتها بصوت طائرةٍ تمزق السماء.

– "اثبتوا… الله معنا"، يهتف شابٌ جريح وهو يضغط على جرحه بقطعة قماشٍ مبللة بالدّم.

– "حسبي الله ونعم الوكيل"، تهمس امرأةٌ مسنّة وهي تحتضن حفيدها، تتلوها كأنها تُغلق بها أبواب الخوف.

– "لا تتركونا وحدنا!"، ينادي أحدهم في هاتفٍ فقد شبكته، لكن النداء يذوب في الأثير.

إعلان انسحابٍ جزئي من غرب غزة ملأ الدنيا صخبًا، كأن غرب غزة صارت واشنطن أو عاصمة الكون، لكنه لم يكن إلا إعادة تموضعٍ يائس. الشفاء غدت عاصمةً للوجع، نقطة التقاء الأحياء بالأموات، وسوقًا لبضائع آخر زمن؛ بعضها مسروق، بعضها من صناعة الجوع، حيث تجار الحروب يركبون موجة الخراب.

الهجمات تتوالى من الشمال والجنوب كلسعات البرق، دقائق معدودة تكفي لاختراق الأحياء، قذائف من كل صوب، وأصواتٌ تشقّ القلب قبل الجدار. وفي لحظةٍ صار العدو على أعتاب الشفاء، يلتهم ما تبقى من غزة حيًا حيًا: الجوازات، السرايا، الصبرة، تل الهوى، الجامعات، والصناعة.

غزة الآن ظلّ مدينة، مدينةٌ تبكي حتى الصمت، تُطلّ من كوة جدار مهدوم، غارقة في غبارها ودخانها وبردها. لا بيت سالمًا، لا شارع إلا وأكلته النيران، ظلامٌ دامس تتخلله إنارة شرقية من مغتصبات الغلاف، تلمع فوق محرقةٍ لا يشبهها شيء. إنها جريمة العصر، جريمة يقف العالم أمامها صامتًا، كأن غزة بلا بواكي، كأن القلوب جميعها أُطفئت.

ومع ذلك، يبقى في صدرها نورٌ خفي، جمرة إيمان لا تُطفأ، يردّدها كل من بقي حيًا:

"لن ننكسر… وإن انكسر كل شيء حولنا."

وتهمس الأرض معهم: "هذه الدماء ستكتب الطريق، وسيُولد فجر التحرير ولو طال ليل المذبحة.

المصدر / فلسطين أون لاين