*{وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}* (الأحقاف 15)
كبر الصغار في غزة… لكنهم لم يكبروا كأي أطفال.
نشأوا بين ركام الألم ورصاصة القهر، فحملوا البندقية قبل أن يعرفوا طعم الطفولة، وترعرعوا على عتبات المخيمات، حيث البراءة تختصر في صبرٍ عنيد وعزيمة لا تلين.
أول حروفهم كانت آياتٍ من القرآن، وأول خطواتهم كانت على درب الشهادة. تارةً يحملون الماء لوالديهم، وتارةً يودّعون شبابهم المزهّر على أعتاب العمر، يرددون بلسان غير متمرّس وصايا الشهداء الذين سبقوهم… لكن قلوبهم كانت أقوى من كل ألم، وأقدامهم أثبت من كل خوف.
هؤلاء الصغار شاءت لهم الأقدار أن يكونوا رجال الملحمة الكبرى.
يسبحون في بحرٍ من التحديات، يسابقون الزمن لينالوا الوسام الأعظم في ساحات الجهاد.
غزة صارت مسرحًا لحكاية لا تنتهي… قصيدة حياة مكتوبة بدماء البراءة التي تحوّلت إلى قوة، عهدٌ لا تبديل فيه ولا رجوع.
يشبهون إسماعيل في صبره وإيمان أبيه، مستعدّين لأن يقدّموا الأرواح والدماء فداءً لكرامة الأرض المقدسة، تاركين وراءهم دروسًا في العزّة والتضحية، ونهايةً لأكبر تجارةٍ رابحة، حيث باعوا أنفسهم لله ففازوا بالجنة، ونقشوا أسماءهم على جبين التاريخ كجيلٍ صنع من صلب المحن أساطير لا تموت.
كبر الصغار في غزة يوم صغُر الكبار.
كبر أولادي ولعبتهم البندقية، يسجلون وصاياهم شهداء قبل أن يعرفوا مقاعد الدراسة، ومخيمات الكشافة والفتوّة كانت أرجوحتهم، إعداد غير مباشر يرسم ملامح جيل التحرير.
درجوا في مخيمات القرآن، حفظوا كتاب الله، ارتقوا في درجاتهم العلمية حتى الدراسات العليا، وبقوا أولادًا صالحين يدعون لوالديهم ويحملون لهم الماء في ساعة العسرة.
وقبل أن يتموا عقدهم الثاني… كانوا قد دخلوا عقدهم القتالية، يصنعهم الله على عينه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه 39).
ظننت أني أسبقهم، فإذا بهم يسبقونني بعمر قصير وعمل عظيم وفوز مبين، في جوهرة الشهادة التي تثقّل الميزان.
أحسبهم – والله حسيبهم – {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأحزاب 23).
إنهم إسماعيل العصر، يرددون: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات 102).
رحلوا مبكرين، مختارين، مقبلين على لقاء الله، فداءً للأرض المقدسة وسهمًا في طريق التحرير.
أصابهم دعاء البركة: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} (الأحقاف 15).
كانوا ذخراً وفخرًا، سهم خير وجهاد قبل أن يتجاوزوا نهاية العقد الثاني.
الدنيا فتحت ذراعيها لهم بما حملوا من تأهيل وقيادة وحضور… لكنهم آثروا التجارة الرابحة:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة 111).
فغادروا وقلوبهم عامرة… ربح البيع أحبابي، ربح البيع.

