"هاتولي ياه بدي أنيمه عندي..."، صرخة أطلقتها صباح أبو ريالة وهي تنظر إلى جثمان نجلها الشهيد في مجمع الشفاء الطبي بغزة، ممنية نفسها بأنه لا يزال حيا، بينما يعتصرها الألم أمام حقيقة رحيله.
في حضرة الشهداء، الممدة جثامينهم في حرم مجمع الشفاء، الشاهد على الدم الفلسطيني المسفوك بآلة الحرب الإسرائيلية للشهر الـ24 تواليا، انفجرت حنجرتها: "حسبي الله ونعم الوكيل".
ويستقبل مجمع الشفاء الذي دمره الاحتلال خلال الحرب وأعيد ترميم جزء يسير منه، مواكب الشهداء يوميا على وقع استمرار الحرب، التي أسفرت عن ارتقاء وإصابة أكثر من 230 ألف غزي، معظمهم نساء وأطفال، وفق وزارة الصحة.
تمنت السيدة لو أن نجلها سيعود معها، يضمد جراح قلبها، ويوقف نزيف أمومتها ويرده إليها، ليهون عليها مشاق حرب الإبادة، التي اختطفته من حضنها، وتركتها وحيدة تبكيه بلا حول ولا قوة، تكابد للوقوف على قدمين بالكاد تحملناها.
لم تناشد الأم على غير عادة، العالم أو الدول، واكتفت باحتساب أمرها عند ربها، مسلمة إليه قلبها، ونبضها المتسارع حزنا وألما، في وقت يكتفي "المجتمع الدولي" بمشاهدة صرختها، أو يتواطأ ويتعاون مع (إسرائيل) في صنع معاناتها.
"راح يجيب أواعيه... قصفوه"، تختصر صباح بهذه العبارة، في حديث مع صحيفة "فلسطين"، قصة اغتيال الفلسطيني على يد (إسرائيل)، فهو إنسان أعزل يرزح تحت احتلال غاشم يشرده ويسرق أرضه ويقتله حتى إذا عاد إلى أنقاض مسكنه لينتشل شيئا من حاجياته.
تتكالب عليها الفواجع التي أصابت نجلها حتى قضت عليه. تقول صباح، إن ابنها كان يقيم في منزل عائلة زوجته في شارع الجلاء بغزة، وشردهم الاحتلال منه قسرا في خضم عملية احتلال المدينة، ودفعهم إلى أحد مراكز الإيواء.
وعندما عاد الرجل مع زوجته وأبيها وأخيها لانتشال بعض ملابسهم، من المنزل، أو ما تبقى منه، استهدفهم الاحتلال بصاروخ أودى بحياتهم.
ويأسر الحزن قلب صباح على زوجة ابنها، موضحة أن "أعز 3 أفراد عليها راحوا... أبوها وأخوها وزوجها". تصمت لوهلة ثم تقول، كأن الشهيدة تسمع مواساتها: "هي امك عندك في الجنة"، مبينة أن والدتها أيضا استشهدت في جريمة إسرائيلية سابقة.
"اصحى..."
إلى جانبها، يفترش مجموعة من الرجال الأرض في وداع شهيد لا يصدقون أنه رحل عن دنياهم، مخاطبين إياه بدموع منسابة: "اصحى... انت اللي ربيتنا وفضلك علينا".
في هذا المشهد، لا تقطع نبراتهم الحزينة، وحكاياتهم المريرة، إلا أصوات سيارات الإسعاف التي تتوافد سريعا، لتفرغ حمولتها من جثامين الشهداء أو الجرحى، وتعود لتنقل ضحايا حرب الإبادة الجدد.
يحدث ذلك في وقت تتفاخر حكومة المستوطنين الفاشية بعملية عسكرية عدوانية لاحتلال مدينة غزة المدمرة، تبيد في طريقها البشر والحجر والشجر.
ويواصل جيش الاحتلال استهداف مدينة غزة وأحيائها السكنية المدنية، ضمن سياسات التدمير الممنهج والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري التي يواصل تنفيذها منذ بدء عدوانه البري على المدينة في 11 أغسطس/آب.
ووفق بيان للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة مؤخرا، دمر الاحتلال أكثر من 1,600 برج وبناية سكنية مدنية متعددة الطوابق تدميرا كاملا، وأكثر من 2,000 برج وبناية سكنية تدميرا بليغا، إلى جانب تدميره أكثر من 13,000 خيمة تؤوي النازحين.
ومنذ مطلع سبتمبر/أيلول، نسف الاحتلال ودمر 70 برجا وبناية سكنية بشكل كامل، و120 برجا وبناية سكنية تدميرا بليغا، إضافة إلى أكثر من 3,500 خيمة.
وبينما يبكي ذوو الشهداء أحباءهم، لا يزال مجمع الشفاء وبقية مستشفيات غزة يمثلون قبلة للشهداء والمصابين، الذين يصلون تباعا، ما استمر الاحتلال في فصول حرب الإبادة.