فلسطين أون لاين

برج مشتهى يختصر القضية؟!

برج مشتهى تتكثف فيه قصة البناء والتشبث بالحياة، وفي ذات الوقت تتجلى قصة التدمير وإفناء الحياة بأبشع طريقة ممكنة. سيروي التاريخ أن هناك مجتمعًا فلسطينيا في قطاع غزة يشكّل ثمانين بالمئة منه مطرودون ومهجّرون من ديارهم، خرجوا من قرى ذات جنات ونعيم، وكان كلٌّ منهم (لو بقيت بلادهم دون احتلال) أن يكون صاحب فيلا وأرض وبساتين، ولم يكن مضطرًا للبناء الرأسي ليحشر نفسه في شقة يشقّ فيها الحياة ويتشارك مع عائلات كثيرة هذا البناء.

صبّروا أنفسهم وتعلّقوا بأمل العودة ذات يوم إلى تلك الديار التي عمّرها طاردوهم وتمطّوا في ربوعها، وأقاموا سعادتهم على حساب تعاسة أصحاب الأرض الأصليين، هانئين، شامتين، متشبثين بروايات توراتية عثروا عليها من قديم الزمان، عبث بتاريخها كل حاخاماتهم، فأنتجوا سردية ما لها من قرار، ولكنهم بالقوة وبصلف الطغاة جعلوا لها كيانًا.

أصبحت هذه الديار بين مظلومٍ مطرودٍ يتجرّع الحسرة وقهر الطغاة، وظالمٍ مستبدٍّ يدير ظهره للحق ويمدّ لنفسه من حبال القوة مع كل قوى الشر المستبدة في عالم طال فيه ليل المستبدين الطغاة.

وبالمقابل عاش الفلسطيني ليجد لنفسه في قطاع غزة موطئ قدم، وليحقق عشق الحياة وشيئًا من أمل حرية قادمة في مستقبل الأيام. وكلما ادلهمّت به الخطوب وضاقت عليه الحياة بما رحبت، ازداد يقينًا بقرب الفرج، ومن معين إيمانه العميق بربه وقضيته رفض الهجرة وكل ضغوط التهجير على مدار ثمانية عقود، عضّ على النواجذ متمسكًا بمفتاح بيته القديم وطابو أرضه التي سُلِبت منه.

وانفجر بركان الغضب المحشور في صدره منذ ما يزيد على سبعة عقود، فكان الطوفان، وكان التعبير عن هذا الغضب والظلم المتراكم في الصدور من خلال مقاومة فذّة أعادت طرح القضية بقوة من جديد، وأعادت الأمور إلى مربّعها الأوّل.
 شكّل برج مشتهى علامة فارقة تدلّ على شعب الشتات، تدلّ على بشاعة الاحتلال، تدلّ على هذا التناقض الفظّ بين محتلّ ولاجئ.

ووقف هذا الاحتلال على مفرق طرق، إمّا أن يعترف بالجريمة ويبدي استعداده للحلول السلميّة التي تعطي شيئًا من الأرض لأصحابها فيتقاسم ما ليس له مع المالك الحقيقي لكل الأرض، أو أن يلجّ في طغيانه ويتنكّر كليّا لهذا الآخر المطرود والمحروم. وكان للقوّة أن تفرض نفسها، خاصّة وأن الدولة الأعظم وما لفّ حولها من دول الاستعمار والاستبداد يقفون معه بكل ما أوتوا من قوّة وبأس. فلمَ لا يلجّ في طغيانه وهو القادر على أن يصل بالقوّة إلى ما يريد؟

شكّل برج مشتهى مع مرور الزمن إشارة هائلة تلوح في الأفق على اختلال الميزان، فهؤلاء اللاجئون المصرّون على الحياة ناقوس خطر دائم لما هو قادم، ولئن فات هذا الاحتلال أن يُبيدهم أوّل مرّة ونجوا إلى هذه الفرصة، فعليه اليوم ألّا يضيّع فرصة الخلاص منهم مرّة ثانية.

شكّل برج مشتهى منارة عالية تدلّ على استمرار البقاء الفلسطيني ولو في شقّة معلّقة في هواء هذا البرج. الفلسطيني يصرّ على عمارة الحياة، ولا حلّ عند المحتل إلا قتل هذه الإرادة وتدمير ما بُني بأبشع أساليب الدمار وعلى الهواء مباشرة، ليرى العالم ما هم فاعلون من خراب، وحتى يخشاهم الناس ويحسبوا لهم ألف حساب.

الاحتلال، وهو يظن أنه ينتصر بدماره، إنما ينهزم على مستوى أعمق: يخسر سرديته التي سوّقها عقودًا طويلة للعالم، فإذا بها تتهاوى أمام الحقائق والوقائع، يسقط أخلاقيًا إلى الدرك الأسفل من الانحطاط الإنساني. لم يعد يُرى فيه إلا وجه القوة الغاشمة التي تحارب الحياة نفسها، ولا يبقى في ذاكرة الأجيال إلا صورته كقوة ظالمة عاجزة عن تقديم أي معنى سوى الخراب.

ابن غفير وسموتريتش ونتنياهو وعميحاي إلياهو صاحب فكرة ضرب القطاع بالنووي، وكل من جمعت عقليتهم بين الفاشية والنازية وكل أشكال التطرّف العنصري والتوحّش، لا يرون في الحياة الفلسطينية إلا التدمير والتتبير. لكنهم –وأمام مشهديتهم المرفّهة عن نفسياتهم المريضة وهم يرقبون البرج المتهاوي تحت ضربات صواريخهم– ألا يخطر في بالهم أن هناك في القرآن الكريم ردًّا قادمًا لا محالة على هذه الغطرسة بمثل ما قدّمت أيديهم:
﴿وَلِيُتَبِّروا ما عَلَوا تَتبيرًا﴾.

المصدر / فلسطين أون لاين