غزة تعيد رسم المعادلة الإقليمية وتفكك أسطورة الردع والضفة على مفترق طرق
منذ 7 أكتوبر 2023 لم تعد المنطقة كما كانت، ولم يعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي قابلا للتوصيفات القديمة، فالمقاومة في غزة، بصمودها أسقطت كل النظريات العسكرية التي صيغت في مراكز الأبحاث الكبرى، وأحرجت جيشا لطالما زج به في أساطير "اللا يقهر"، مدعوما من أقوى قوى العالم.
يرى د. خالد شوكات، رئيس المعهد العربي للديمقراطية والوزير التونسي السابق في حديث مع صحيفة "فلسطين"، أن ما جرى في غزة لحظة مفصلية أعادت تعريف جوهر الصراع، بل نقلت القضية الفلسطينية إلى موقع غير مسبوق في الضمير الإنساني.
ويتابع، لقد ثبت أن قوة محدودة بالإرادة والوعي، يمكن أن تربك جيشا يملك التفوق العسكري، لكن يفتقر إلى الشرعية الأخلاقية. وبينما تتوالى هزائم الاحتلال على أطراف غزة، تتصاعد انتصارات الفلسطينيين في ميادين الرأي العام العالمي والشرعية الدولية.
الطوفان يوقظ ضمير العالم
أصبح الطوفان رمزا لتحول عالمي في النظر إلى فلسطين. في تقدير شوكات، فإن القضية الفلسطينية لم تحظ بمثل هذا الإجماع الأخلاقي والإنساني منذ نكبة 1948، إذ خرجت من كونها "ملف نزاع إقليمي" لتصبح قضية كونية للعدالة،
من اليابان إلى واشنطن، ومن أوسلو إلى كيب تاون، تظاهرت شعوب الأرض دفاعا عن غزة، في مظاهرات لم يسبق لها مثيل، لا في حجمها ولا في عمق رسائلها.
ويذهب شوكات إلى أن الرواية الإسرائيلية انهارت تحت ضغط الحقائق، ومعها تآكلت شعارات الاحتلال. مشيرا إلى أن استطلاعات الرأي في الغرب تؤكد تراجع التأييد الشعبي لكيان الاحتلال، مقابل تعاطف متصاعد مع الفلسطينيين.
كذلك بدأ التحول يمس المؤسسات الدولية، حيث اتجهت قرارات بعض المحاكم والحكومات إلى ملاحقة قادة الاحتلال، ومنعهم من دخول أراضيها، أو توريد السلاح إليهم.
الضفة تحت التهديد
يرى شوكات أن المشروع الصهيوني بات مفضوحا، ولم يعد يخجل من إعلان رفضه لأي حل سياسي حقيقي. فحل الدولتين بات في حكم الميت، وسط تصريحات متزايدة من قادة الاحتلال تنادي بضم الضفة الغربية ورفض أي كيان فلسطيني مستقل.
بل ذهب نتنياهو إلى حد تبني مشروع "إسرائيل الكبرى"، الذي يشمل أراض من دول عربية مجاورة، وفق الخريطة الصهيونية الأصلية. كل ذلك يثبت أن الصراع ليس على حدود، بل هو صراع وجود في مواجهة مشروع استيطاني عنصري توسعي.
الشارع الغربي ينتفض
التحولات التي شهدتها المجتمعات الغربية لم تأت من فراغ، بل هي ثمرة تراكمات اجتماعية وسياسية دفعتها حرب غزة إلى السطح. فقد وجد كثير من الشباب والمثقفين والناشطين أنفسهم في عدالة القضية الفلسطينية، التي باتت تعكس قضاياهم هم: مقاومة العنصرية، والهيمنة، واللوبيات الضاغطة على القرار السياسي.
يرى شوكات أن هذه التحولات ليست مؤقتة، بل ستنعكس تدريجيا على تركيبة النخب السياسية، ونتائج الانتخابات، وعلى علاقات بعض الدول الغربية مع الاحتلال.
ومن بين المؤشرات المبكرة: قرارات منع التسلح، تقييد السفر، وفتح ملفات جنائية ضد مسؤولي الاحتلال.
"السوشيال ميديا" تعري الرواية الصهيونية
لطالما كان الإعلام الغربي أداة بيد اللوبي الصهيوني، بفعل سطوة المال والإعلان، لكن اليوم تغيرت قواعد اللعبة، مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار الصحفيين المواطنين، أسقط احتكار الرواية، وفرض خطابا جديدا يظهر وجه الاحتلال الحقيقي.
ويشير إلى أن الإعلام التقليدي، المربوط بسياسات التحرير الموجهة، أصبح مضطرا لتغيير بعض خطوطه تحت ضغط الرأي العام، الذي بات أكثر وعيا وأقل قابلية للتضليل.
الخذلان العربي.. بين العجز والتواطؤ
في مقابل هذا الحراك العالمي، يرى شوكات أن الأنظمة العربية قدمت مشهدا من أسوأ مشاهد الخذلان السياسي، بل إن بعضها ذهب بعيدا في دعم الاحتلال، ماديا ولوجستيا.
هذا الواقع، في رأيه، لم يفاجئ الشعوب، التي باتت تدرك أن تلك الأنظمة وجدت أساسا لحماية الاحتلال، لا لمواجهته.
ولأنها تخشى شعوبها أكثر من عدوها، مارست هذه الأنظمة احتواء وقائيا، ومنعت أي تحرك شعبي داعم لغزة، خشية أن يتحول إلى انتفاضة شاملة ضد الاستبداد والتطبيع. لكنها، دون أن تدري، تفتح الطريق أمام يقظة كبرى، ستجعل من فلسطين نقطة الالتقاء بين مطالب الحرية الداخلية والتحرر القومي.
النخب أمام اختبار تاريخي
وبكلمات مباشرة، يؤكد شوكات أن (إسرائيل) انتهت ككيان أخلاقي وسياسي منذ 7 أكتوبر، على غرار ما جرى لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. النهايات لا تأتي دفعة واحدة، لكنها تبدأ من نقطة اللاعودة، وقد وصل الاحتلال إليها بالفعل.
ويقول، الكيان يحمل بذور فنائه داخليا، بسبب طبيعته المصطنعة، وتكوينه القائم على القمع والاستيراد الديمغرافي. ما تفعله المقاومة هو تسريع هذا الانهيار التاريخي، حتى وإن طال الزمن. فصراع الحق مع الباطل، وإن طال، مصيره أن يحسم لصالح الشعوب، لا المحتلين.
ويرى شوكات أن النخب الثقافية والفكرية العربية أمام لحظة فرز مصيرية: إما الانحياز إلى المقاومة والكرامة، أو الاستسلام للعدو والتطبيع. لا مجال للمواقف الرمادية. حتى الكلمة ليست بلا أثر، بل هي البداية "وفي البدء كانت الكلمة".