بالرغم من كل الآلام والأحزان التي يعاني منها الفلسطينيون بسبب تصريح بلفور، وعلى الرغم من الحروب البشعة والقتل والدمار الذي ترتب على هذا التصريح، تقف رئيسة وزراء بريطانيا تتبجح بسعادتها بذلك التصريح، وبإقامة الوطن القومي لليهود على حساب الشعب الفلسطيني.
ولمزيد من الوقاحة والاستهتار بحقوق الشعب الفلسطيني وبما لقيه من معاناة عبر الزمن، تدعو رئيسة وزراء بريطانيا رئيس وزراء الكيان الصهيوني إلى بريطانيا للاحتفال سوية بذكرى صدور التصريح المشؤوم. إنها تتحدى مشاعر الناس في فلسطين وفي كل البلدان العربية، وتستهتر بكل الدماء التي سالت من أجل فلسطيني، وفي ميادين الحرب التي أشعلها الكيان الصهيوني البغيض.
لقد أشعلت بريطانيا التوتر والكراهية والبغضاء وصنعت في النهاية الحروب في المنطقة العربية والتي لا يبدو أنها ستنتهي. لقد تسببت بريطانيا بتشريد الشعب الفلسطيني وقتل أبنائه وتدمير مدنه وقراه، وتسببت بقتل عشرات الآلاف من العرب الأردنيين والمصريين والسوريين واللبنانيين والعراقيين والمغاربة واليمنيين والجزائريين، الخ. وبالرغم من ذلك هي سعيدة، وغير نادمة على فعلة دولتها التي أجرمت وما تزال تصر على مواصلة الإجرام.
دائما نسمع التصريحات الغربية حول الاستقرار في المنطقة العربية أو ما يسمونه الشرق الأوسط، ونسمعهم يدعون أنهم مع استقرار المنطقة، ويوجهون انتقادات لاذعة وتهديدات ضد من يظنون أنهم يهددون الاستقرار. وبالطبع تدرك الدول الغربية أن مصالحها تتعرض للتهديد كلما غاب الاستقرار عن المنطقة. أوروبا يطالها في العادة نصيب من أعمال العنف، وكذلك الولايات المتحدة.
لكن لا أوروبا ولا أمريكا تريدان الاعتراف بأن الكيان الصهيوني هو أساس عدم الاستقرار، وهو الذي يقوض الاطمئنان والأمان في المنطقة، وهو الذي يعمل دائما على شن الحروب، ويقيم سباقا للتسلح. أي أن الدول الغربية لم تعمل فقط على نشر الفوضى والحروب والقتال في المنطقة العربية فقط، وإنما عملت بصورة غير مباشرة على تهديد أمنها هي، وعلى تهديد أمن اليهود أيضا الذين لم يذوقوا طعم الاستقرار منذ أن حلوا غزاة على العرب.
على الرغم من انحسار الاستعمار التقليدي، إلا أن عقلية رئيسة وزراء بريطانيا ما زالت مربوطة بهذا الاستعمار وما يمثله من استغلال للشعوب، ونهب للثروات، واستهتار بكل القيم الإنسانية والمبادئ الديمقراطية. وهي لا تتخلى أيضا عن التشدق بالمبادئ التي يروج لها الاستعماريون دون أن يحترموها. تيريزا ماي امتداد للعقلية الاستعمارية التي تنتعش على مصائب الشعوب الأخرى.
منطق رئيسة وزراء بريطانيا منسجم تماما مع نظرة الدول الاستعمارية للعرب والفلسطينيين بصورة خاصة. إنهم يدركون أن الفلسطينيين والعرب عموما ضعفاء جدا، ولا يقوون على الدفاع عن أنفسهم، وهم ليسوا أهل مواجهة وتحدي وصدام، ولهذا يتطاولون عليهم، ولديهم الرغبة الطامعة باستمرار في نهب ثروات العرب وإخضاعهم واستعمالهم لمنافعهم الخاصة.
الاستعمار لا يحترم الضعفاء، ولا يقيم علاقات فيها بعض الاحترام المتبادل إلا مع الأقوياء. ولهذا نحن العرب ندفع ثمن فشلنا وخيبتنا وسوء حكامنا، وإذا كان لنا أن نردع رئيسة وزراء بريطانيا فما لنا إلا أن نغير ما نحن فيه، وهذا بالتأكيد يتطلب وقتا طويلا. لكن أن نبدأ متأخرين افضل من أن لا نبدأ أبدا.
القوي لا يبقى قويا، والضعيف لا يبقى ضعيفا، والأيام تدور، والفطن من يحسب لأيامه الصعبة ولا تأخذه أيام الرخاء فيصاب بالعمى. رئيسة وزراء بريطانيا لم تتصرف كمسؤولة أو كشخص دولة، وإنما تصرفت وفق نعرات فهلوية وتشبيحية، وكأنها معنية فقط بعرض العضلات.
وكان من الأولى لها أن تتكلم وفق ما هي عليه بريطانيا اليوم. بريطانيا لم تعد المملكة التي لا تغيب عنها الشمس، ولم تعد بريطانيا العظمى. بريطانيا تقلصت، والعوامل التي أدت إلى تقلصها ما زالت نشطة، ما يعني أن تقلصها على الساحة الدولية سيستمر. ولو كانت شخص دولة لاتعظت بما هو حاضرها لكي ترسم مستقبلها.
الاستهتار بالشعوب ومشاعرها لا يجلب القوة ولا العظمة، وإنما يستدر رغبات الانتقام. ولو قرأت السيدة التاريخ جيدا لوجدت أن أصول حالات عدم الاستقرار في المنطقة العربية تعود في الغالب إلى قيام الكيان الصهيوني التي تفخر به أنه صناعة بريطانيا، وما دام هذا الكيان موجودا، فإن مزيدا من حالات عدم الاستقرار ستظهر في المنطقة وسترتد إلى أوروبا. كان من مصلحة بريطانيا أن تتعقل السيدة رئيسة الوزراء، لكنها فضلت الإصرار على استمرار وضع بريطانيا ضمن الدول التي ألحقت عظيم الظلم بالآخرين بخاصة الشعب الفلسطيني.