مِنَ المَعرُوفِ تاريخيًّا أنَّ هُولاكو الّذي قادَ التَّتَارَ نَحوَ الغَربِ دَمَّرَ كَثِيرًا مِنَ المُدُنِ وحَوَّلَهَا إِلى خَرابٍ، كَانَ أَهمَّهَا بَغدَاد، دَمَّرَهَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مِن بَشَرٍ وحَجَرٍ ومَعرِفَةٍ وعِلمٍ، ومَعرُوفٌ تاريخيًّا كَيفَ دَارَت عَلَيهِمُ الدَّائِرَةُ وانتهَى أَمرُهُم. واليَومَ مَغُولُ هَذَا العَصرِ يُدَمِّرُونَ مُدُنَ قِطَاعِ غَزَّة مَدينَةً مَدينَةً، وعَلَى مَرأى العَالَمِ الَّذِي انقَسَمَ بَينَ مَعسَكَرٍ مُنخَرِطٍ ومُشَجِّعٍ عَملِيَّةَ الإبَادَةِ، ضَمَّ أَمرِيكَا ودُوَلًا أُورُوبِّيَّةً وعَربِيَّةً، ومَعسَكَرٍ لَا مُبَالِي يَكتَفِي بِالتَّندِيدِ والفُرجَةِ وانتِظَارِ تَدمِيرِ المَدِينَةِ القَادِمَةِ. وهَذَا العَالَمُ المُتَفَرِّجُ اكتَفَى بِالكَلَامِ وأَشَدِّ عِبَارَاتِ التَّندِيدِ وأَلَمِ القَلبِ والدُّعَاءِ، قَلبُهُ مَعَ الضَّحِيَّةِ وَيَرَى أَنَّ هَذِهِ المَعرَكَةَ فَوقَ طَاقَتِهِ ولَا حَولَ لَهُ ولَا قُوَّةَ.
اليَومَ يُهَدِّدُونَ بِتَدمِيرِ مَدِينَةِ غَزَّة بِصَرَاحَةٍ، ويُظهِرُونَ مَا يُبَيِّتُونَ مِن نَوَايَا سَيِّئَةٍ مُسبَقَةٍ، رَغمَ أَنَّهُم يُدرِكُونَ أَنَّ هَذَا يُشَكِّلُ إِدَانَةً فِي مَحكَمَةِ العَدلِ العُليَا، لكِنَّهُم يَنظُرُونَ إِلَيهَا كَأَنَّهَا مَدِينَةُ وَرَقٍ أَو لِيجُو، أَو قَريَةٌ صَغِيرَةٌ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ. أَعمَتهُم رُوحُهُمُ الإِجرَامِيَّةُ عَن تَقدِيرِ حَجمِ هَذِهِ الجَريمَةِ. لَا يَرَونَ أَنَّ فِيهَا بَشَرًا، فِيهَا أُنَاسٌ يَتنَفَّسُونَ ويَعقِلُونَ ويَحلُمُونَ ويَعشَقُونَ الحَيَاةَ بِكُلِّ تَفَاصِيلِهَا. يَرَونَ المَدِينَةَ بِحَجَرِهَا وشَوَارِعِهَا وكُلِّ شَيءٍ فِيهَا إِلَّا بَشَرَهَا، فَهُم أَفَاعِي وصَرَاصِير، وأَطفَالُهَا طُفَيلاَتٌ لَا تَستَحِقُّ الحَيَاةَ.
مَاذَا سَتُدَمِّرُ فِي غَزَّة أَيُّهَا الهُولاكُو الجَدِيدُ أَو النَّازِي المُتَجَدِّدُ؟
أتُدَمِّرُ تَارِيخَهَا المُمتَدَّ عَلَى خَمسَةِ آلَافِ سَنَةٍ؟
أَم حَاضِرَهَا الَّذِي شَكَّلَ شَرَفَ الأُمَّتَينِ العَربِيَّةِ والإِسلَامِيَّةِ وشَرَفَ الإِنسَانِيَّةِ، الَّذِي كَانَت لَهُ غَزَّةُ بِمِثَابَةِ الشَّامَةِ البَيضَاءِ فِي ثَورِهِمُ الأَسوَدِ؟
أَم أَنَّكُم سَتُدَمِّرُونَ مَنظُومَةَ القِيَمِ الَّتِي مَثَّلَتهَا غَزَّة؟
أَم أَنَّكُم سَتُدَمِّرُونَ مَا فَضَحَتهُ غَزَّةُ فِي هَذِهِ الحَدَاثَةِ والمَدَنِيَّةِ المُزَيَّفَةِ الَّتِي كَشَفَت لِلبَشَرِيَّةِ عَورَتَهَا وأَظهَرَت كُلَّ مَا فِيهَا مِن نِفَاقٍ وفَسَادٍ وخَطَلٍ؟
أَم أَنَّكُم سَتُدَمِّرُونَ صَرخَةَ الحُرِّيَّةِ وعُنفُوَانَ الحَقِّ السَّاطِعِ فِي أُمَّةٍ مُستَحمَرَةٍ لَكُم، قَد خَضَعَت وَذَلَّت إِلَّا غَزَّة؟
لَقَد ظَهَرَت نَوَايَاكُم عَلَى المَلَأ. لَا تُرِيدُونَ لِأَيِّ نَفسٍ مُقَاوِمٍ يُوَاجِهُ غَطرَسَتَكُم أَن يَبقَى عَلَى سَطحِ هَذِهِ الأَرضِ. تُرِيدُونَ أَرضَ "إِسرَائِيلَ" الكُبرَى خَالِصَةً مُخلَصَةً مِن كُلِّ الشَّوَائِبِ الَّتِي تُشبِهُ البَشَر، نَاسُهَا عَبِيدٌ لَكُم تَسمَحُونَ لَهُم بِالعَيشِ تَحتَ أَحذِيَتِكُم أَو المَوتِ والدَّمَارِ والفَنَاء.
كَم تَمَنَّى المَجحُومُ شِمعُون بَيرِس أَن يَبتَلِعَ البَحرُ غَزَّة، ومِثلُهُ شَامِير وشَارُون ورَابِين. كُلُّهُم ذَهَبُوا وبَقِيَت غَزَّة. والآن جَاءَ دَورُكَ أَيُّهَا النَّتِنُ لِتَرحَلَ إِلى الجَحِيمِ وتَبقَى غَزَّة.. غَزَّة لَن تُدَمَّرَ وستَبقَى الشَّوكَةَ فِي حُلُوقِكُم.. ولَو عَثَوتُم فِيهَا فَسَادًا، ولَو حَوَّلتُمُوهَا إِلى "هُولوكُوست" سَتَخرُجُ لَكُم مِن تَحتِ الرَّمَادِ.. هِيَ عُنوَانُ فَنَائِكُم، والحَارِقَةُ والكَاشِفَةُ لِحَقِيقَةِ أَمرِكُم..
هِيَ مَكوَى وَعيِكُم إِن بَقِيَ لَكُم وَعيٌ مَعَ هَذِهِ القِيَادَةِ المُجرِمَةِ الَّتِي تَقُودُكُم إِلى الجَحِيمِ.. جَحِيمُ غَزَّة الَّتِي تُوَعِّدُونَ وتُهَدِّدُونَ بِهِ هُوَ بِالضَّبطِ ـ بِإِذنِ اللهِ ـ جَحِيمُكُم.

