بعد أشهر طويلة من التحذيرات والتقارير، أعلنت الأمم المتحدة رسميًا تفشي المجاعة في قطاع غزة، في خطوة عدَّها قانونيون وسياسيون "اعترافًا أمميًا بانهيار مقومات الحياة الأساسية نتيجة حصار إسرائيلي ممنهج واستخدام التجويع سلاح حرب".
وبينما يراها البعض نقطة تحول قانونية تعزز ملاحقة (إسرائيل) دوليًا، يؤكد آخرون أن الإعلان وحده لا يكفي ما لم يتحول إلى ضغط سياسي ودبلوماسي عاجل لوقف الحصار وإدخال المساعدات قبل أن يفتك الجوع بمزيد من المدنيين.
والجمعة الماضية، أعلنت الأمم المتحدة وخبراء دوليون رسميا للمرة الأولى، تفشي المجاعة على نطاق واسع في قطاع غزة، وهي المرة الأولى التي تعلن فيها المجاعة بمنطقة الشرق الأوسط. فقد أصدرت منظمة الصحة العالمية، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، وبرنامج الغذاء العالمي، ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) بيانا مشتركا بجنيف أكدت فيه أن أكثر من نصف مليون شخص في غزة عالقون في مجاعة.
اعتراف أممي
ووفق أستاذ القانون والعلاقات الدولية في الجامعة العربية الأمريكية، د. رائد أبو بدوية، فإن إعلان الأمم المتحدة "لا يُعد مجرد توصيف إنساني لحالة نقص الغذاء، بل يمثل اعترافًا أمميًا بانهيار شامل لمقومات الحياة الأساسية نتيجة سياسات متعمدة، في مقدمتها الحصار الإسرائيلي واستخدام التجويع كأداة حرب".
وأوضح أبو بدوية لـ "فلسطين أون لاين"، أن هذا الإعلان يضع ما يحدث في غزة في إطار "الجرائم الدولية الخطيرة"، وينقل القضية من مستوى "أزمة إنسانية" إلى مستوى "جرائم ضد الإنسانية وربما جريمة إبادة جماعية" وفق القانون الدولي.
وبين أن القيمة القانونية للإعلان كبيرة، إذ يشكل إقرارًا رسميًا يمكن الاستناد إليه أمام المحافل الدولية كدليل إثبات على ارتكاب (إسرائيل) جريمة التجويع، المنصوص عليها في المادة (8) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. كما يعزز الإعلان، وفق قوله، الأساس القانوني لتفعيل مبدأ "مسؤولية الحماية" (R2P) الذي أقرته الأمم المتحدة عام 2005، ويمنح أرضية قانونية لمطالبة الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف باتخاذ تدابير عاجلة لوقف سياسة التجويع.
وأشار إلى أن الإعلان يمكن أن يُترجم إلى ضغوط سياسية وقانونية متزايدة على (إسرائيل)، لكنه رهن ذلك بمدى استثماره سياسيًا ودبلوماسيًا. فعلى المستوى الأممي، قد يظل مجلس الأمن مشلولًا بفعل "الفيتو" الأمريكي، إلا أن الجمعية العامة تستطيع التحرك تحت مظلة "الاتحاد من أجل السلام" لإصدار توصيات بتدابير جماعية، من بينها حماية المدنيين وإرسال المساعدات بالقوة إذا تطلب الأمر. وعلى المستوى القضائي، يشكل الإعلان سندًا قانونيًا يعزز ملفات القضايا المرفوعة ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.
وأضاف أبو بدوية أن الإعلان قد يفتح الباب أمام الاتحاد الأوروبي لاتخاذ خطوات أكثر صرامة تتجاوز بيانات القلق، مثل تعليق اتفاقيات التعاون أو فرض عقوبات مرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان، كما قد يمنح بعض الدول الإقليمية غطاءً قانونيًا وأخلاقيًا للتحرك المنفرد أو الجماعي لكسر الحصار تحت مبدأ "التدخل الإنساني".
وخلص أبو بدوية إلى أن "إعلان المجاعة في غزة يمثل أداة ضغط متعددة الأبعاد: قانونية تتيح الملاحقة القضائية، سياسية تفتح المجال لتعبئة دولية أوسع، وأخلاقية تُعري المجتمع الدولي إذا اكتفى بالصمت".
ضغط سياسي
من جهتها، أستاذة القانون الدولي والعلوم السياسية د. لينا الطبال رأت أن الإعلان "لا يغيّر الواقع الميداني، وإنما يعرّيه ويكشفه للعالم"، موضحة أن سكان القطاع "كانوا يعيشون المجاعة قبل أن يتم الاعتراف بها دولياً، وأن هذا الإعلان بحد ذاته لن يوقف الموت جوعاً".
وشددت الطبال لـ"فلسطين أون لاين"، على أن الخطوة الأممية يجب أن تتحول إلى "ضغط سياسي عاجل لوقف الحصار وفتح المعابر وإدخال الغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية بشكل فوري"، معتبرة أن الاكتفاء بالاعتراف دون تحرك فعلي لا ينقذ الأرواح.
وعلى المستوى الدولي، قالت الطبال إن إعلان المجاعة يضع المجتمع الدولي أمام "مسؤوليته الأخلاقية والقانونية"، خاصة أن القانون الدولي يعتبر التجويع جريمة حرب عند استخدامه كسلاح. وأضافت: "السؤال المطروح هنا: من يملك الإرادة لتطبيق القانون الدولي ومحاسبة (إسرائيل) التي تستخدم الطعام كسلاح في حربها على غزة؟".
وبيّنت أن النصوص القانونية الدولية واضحة في هذا السياق؛ إذ تنص المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 على أنه "يُحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب"، كما تحظر تدمير أو تعطيل المواد الأساسية اللازمة لبقائهم.
كما أشارت إلى أن المادة 8 (2) (ب) (25) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تجرّم "تجويع المدنيين عمدًا بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة، بما في ذلك عرقلة الإمدادات الإنسانية"، وهو ما يجعل (إسرائيل) تتحمل المسؤولية القانونية الدولية، ويمكن إدراج هذه الجريمة ضمن التحقيق الجاري في المحكمة الجنائية الدولية بشأن فلسطين.
وبشأن إمكانية أن يتحول الإعلان من إلى أداة ضغط سياسي وقانوني، أكد الطبال أن ذلك يتطلب ربطه بآليات دولية إلزامية". وأضافت أن "على المستوى السياسي يمكن استخدام الإعلان في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لدفع قرارات عاجلة لرفع الحصار وفرض ممرات إنسانية تحت رقابة دولية".
وعلى الصعيد القانوني، أوضحت الطبال أن الإعلان يشكل "وثيقة إثبات لجريمة حرب وفق المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف والمادة 8 من نظام روما الأساسي"، ما يتيح إدراجه ضمن التحقيق الجاري للمحكمة الجنائية الدولية بشأن فلسطين والدعوى المرفوعة أمامها.
وشددت على أنه يمكن للدول تفعيل الولاية القضائية الشاملة لملاحقة المسؤولين الإسرائيليين، مشددة على أن "تحويل النص إلى التزام عبر العقوبات، والملاحقات، والمقاطعة هو الطريق لإنقاذ أرواح المدنيين وإنهاء سياسة التجويع".