*أُولي بَأسٍ شَديدٍ (الإسراء:5)*
غزة، الرقم الصعب الذي لم تنل منه الرياح العاتية عبر قرون، بوابة آسيا من إفريقيا وبوابة إفريقيا من آسيا، تحكي صفحات تاريخها قصة صمود لا يلين؛ فحين هاجم التتار جيشًا لا يُقهر، كانت غزة أول من حطم هيبته بيد فدائيين أبوا الانكسار، ثم كانت طليعة صلاح الدين في حطين، وسيف نابليون الذي فشل في اقتحامها ثلاث مرات، وصرخة الاحتلال الإنجليزي حين انهزم أمامها، وصولًا إلى شوكة الاحتلال الإسرائيلي في خاصرتها التي لم تُطفأ رغم المحن والحصار، غزة التي رغم صغر مساحتها وكثرة أعدائها، تعيش في قلب التاريخ كرمز للمقاومة والإيمان، تُمضي اليوم كطوفان لا يُرد، يُزلزل الأرض ويُهز عروش الظالمين، لتثبت أن الحق لا يموت، وأن أمل الحرية يتجدد في كل دم يسيل على ترابها، فغزة ليست فقط أرضًا، بل نار تسري في العروق، وقصيدة حياة لا تنتهي، وكلمة الله التي لا تخفى؛ فكما قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}، وغزة اليوم هي موعد الانتصار القادم لا محالة، والعنوان الأبدي للمقاومة التي لا تنكسر.
غزة الرقم الصعب، إنها بوابة آسيا من إفريقيا وبوابة إفريقيا من آسيا، رقمًا صعبًا في مفاصل التاريخ قاطبة. في مواجهة التتار كانت أول من أسقطت هيبة الجيش التتري الذي ظن الناس أنهم لا يموتون، وكان المغول قد قتلوا ما بين أربعين إلى ستين مليون إنسان في العالم حين فاجأتهم غزة وشكلت كتيبة غزة طليعة جيش قطز بكتيبة من الاستشهاديين في ملحمة عين جالوت.
كما مثلت غزة طليعة جيش صلاح الدين في حطين، والذي جعلها مقدمة الجيش في حطين، وفي معركته كانت في عسقلان، التي تمثل هي وغزة على مدار التاريخ لواء واحدًا ومنطقة جغرافية موحدة وتاريخ مقاومة ممتد.
وحين قدم نابليون من مصر بعد احتلالها بجيش لم يستطع اقتحام غزة قادمًا على مرتين، وفي الثالثة التف خلفها نحو بئر السبع حتى استطاع تجاوزها وصولًا لإتمام مسيرته على ساحل فلسطين، حتى ردته مدحورًا عكا ودفنت حلمه الإمبراطوري على أسوارها.
والاحتلال الإنجليزي لمصر يتقدم نحو الاحتلال لفلسطين بجيش من المصريين وقيادة إنجليزية من بوابة غزة، ولم يستطع دخولها على ثلاث جولات حتى دمرها بالكامل وسحقها حين جاء الإسناد للجنرال اللمبي من شرق غزة عبر لورنس العرب الذي يقود الأعراب الذين تواطؤوا على الدولة العثمانية بمسمى الثورة العربية الكبرى.
طوال سنوات احتلال غزة من عصابات الإبادة المسمى دولة (إسرائيل)، رغم سنوات احتلالها القليلة، شكلت غزة شوكة في حلق (إسرائيل)، خنجر في خاصرتها، وقد صنعت على عين الله تبارك وتعالى كموسى عليه السلام في بيت فرعون، وكم تمنى كبار قادة وجنرالات عصابات الإبادة زوال غزة ومحوها وسحقها، وأشهر كلماتهم: "نتمنى أن نستيقظ ونجد غزة قد ابتلعها البحر".
غزة لم يبتلعها البحر، ولكنها كما يبدو على صغر مساحتها وحصارها وضعف قدرتها ومقدراتها، إلا أنها ستبتلع الحوت الكبير المسمى دولة (إسرائيل) بتحول كوني الذي تحيونه اليوم بطوفان ومحرقة غزة، التي تتعاظم بمشيئة الله، الغلابة لتسقط الخيار الغربي في المنطقة بأكملها بسقوط أولًا دولة الكيان الوظيفي، وذلك بسقوط أخلاقي وإنساني وحالة التعريه التي لم تسبق لدولة عصابات الإبادة أن زعمت يومًا أنها ديمقراطية وإنسانية وحيدة في المنطقة، أو التي يقرر جميع أصحاب الفكر فيها ألا مستقبل لها، وأن أجلها قريب، الله عز وجل تأذن بهلاك القرى وهي ظالمة {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (إبراهيم:42).
بل إنه نهاية محور الشر المتمثل بالعالم الغربي، وفي مقدمتها أمريكا، حيث لا مستقبل لها في المنطقة في ظل سقوطها الأخلاقي والإنساني بعد محرقة غزة واستباحتها للدماء والأطفال والنساء، وغدت مفضوحة كشريك عصابات الإبادة.
والشعوب العربية والمسلمة والحرة المحتقنة بما حل بفلسطين وغزة، والتي تمثل القلب والأقصى والمسرى وبوابة السماء، وما هي إلا بركان سيثور قريبًا كما ثار في الربيع العربي بعد ملحمة الفرقان في غزة 2009، فإن النار تضطر في كل ضمير عربي ومسلم وحر على وقع جرائم محرقة غزة، وستصحو البشرية قريبًا على الربيع العربي في نسخته الثانية لتنتصر الشعوب، وكما هتفت في ربيعها الأول "الشعب يريد تحرير فلسطين"، سيكون هتافها في الربيع الثاني رجع صدى لطوفان ومحرقة غزة ليهز أركان الدنيا، ويرعب الظلمة والغرب والاستبداد، ويفتح الطريق أمام التحول الأكبر في المنطقة والعالم بعلو جديد للشرق على الغرب {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} (الإسراء:51).

