"قطعة من جهنم"، هكذا تبدو خيمة الغزي النازح هاني سالم في وقت الظهيرة بغزة، محاطا بأطفاله الستة، الذين يتصببون عرقا، ويتضورون جوعا، في حين يهدد الاحتلال بتشريدهم مجددا، في خضم حرب الإبادة الجماعية.
لكن سالم الذي تشبث بالبقاء في مدينة غزة على مدار 22 شهرا، ونزح داخلها قسرا مرات عدة تحت نيران كثيفة للنجاة بأسرته، يرفض تلك التهديدات، مؤكدا لـ "فلسطين أون لاين"، أنه لن يغادر المدينة تحت أي ظرف، متفقا في ذلك مع الأهالي الذين يتمسكون بأرضهم ومناطق سكنهم، وإن كانوا في خيام لا تشبه الحياة.
وأول من أمس، أصدر الاحتلال أوامر تشريد قسري في حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة، في وقت يهدد مسؤولوه بتوسيع العدوان عبر عمليات برية جديدة، في ظل جرائم القتل والتجويع والتعطيش ومحاولات التهجير القسري والحصار.
وبينما يوقد سالم النار باستخدام حفنة من الحطب، لغلي بعض الماء وإعداد شاء غير محلى لأطفاله مع ارتفاع أسعار السكر بسبب الحصار، يقول: "أنا شفت الموت وضليت هنا وما نزحت، بدي أنزح الحين؟، أكيد لا".
وعاش سالم رحلة معاناة ممتدة خلال الحرب، فقد في إثرها زوجته ووالده وأبناء أخيه وآخرين من عائلته، وعن ذلك يقول: إن أعز الناس على قلبه استشهدوا، وبات في خيمته وحيدا مع أطفاله، متسائلا: "وين أروح فيهم؟".
وفي بدايات حرب الإبادة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، شن الاحتلال عدوانا بريا على مدينة غزة، حيث كان سالم يقطن في حي الرمال بمدينة غزة، لكنه ظل صامدا في بيته.
وخلال تلك الفترة كان سالم محاصرا، محروما من الغذاء والدواء، مع زوجته، وأطفاله الذي يبلغ أكبرهم 11 عاما، وأصغرهم ثلاثة أعوام.
يقاوم وجعا بداخله، قائلا: "كان في اجتياح هنا، وأنا بداري، وخشوا (قوات الاحتلال) الدور اللي جنبنا".
ويذكر كيف لجأ إلى طحن الشعير المخصص للحمير والذرة التي تأكلها الأغنام لإعداد الخبز مع منع الاحتلال إدخال الطعام إلى الأهالي، مضيفا: عشنا معاناة غير طبيعية حتى نتمكن من إطعام أولادنا ولم نستطع.
وعندما توارد إليه أن كمية شحيحة من المساعدات ستدخل، وتوجه إلى منطقة دوار النابلسي، أصابه الاحتلال بعيار ناري أقعده عن الحركة لفترة.
في ظل إصابته، تحملت زوجته أعباء الحياة اليومية القاسية، وبينما كانت تخبز ما تيسر من طحين صنعوه من الشعير، أصابتها 3 قنابل دخانية، يقول سالم إنها أدت إلى إصابتها بمرض السرطان، ثم استشهادها العام الماضي.
ولاحقا أصيبت طفلته دانا (خمسة أعوام) في قصف نفذه الاحتلال في منطقة السرايا وسط غزة.
أوضاع النازحين
ويواجه قرابة 1.9 مليون غزي، أي ما يعادل 90% من إجمالي الأهالي، أوضاعا إنسانية كارثية بعد أن أجبرهم الاحتلال على النزوح مع استمرار العدوان.
وتشير وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إلى أن آلاف العائلات تعرضت للنزوح عدة مرات، ما فاقم من هشاشة أوضاعهم وأفقدهم أي شعور بالأمان أو الاستقرار.
وفي سعيهم للبقاء، يواجه الغزيون خطرا إضافيا يتمثل في التعرض لإطلاق النار خلال محاولاتهم الوصول إلى المساعدات. وتفيد بيانات أممية بأن 1,373 غزيا استشهدوا بين 27 مايو و31 يوليو 2025 أثناء توجههم تحت وطأة التجويع إلى نقاط توزيع المساعدات الأمريكية-الإسرائيلية المشبوهة أو مرورهم بالقرب من قوافل الإغاثة، في ظل عسكرة الاحتلال ملف غذاء غزة.
وفيما يكافح النازحون لتأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة، تؤكد منظمة الأغذية والزراعة (FAO) أن 98.5% من الأراضي الزراعية في غزة أصبحت غير قابلة للزراعة أو الوصول بسبب التدمير الواسع أو الحصار، مما حرم المواطنين من مصدر رئيسي للغذاء والدخل. ولم يتبق سوى 1.5% فقط من الأراضي الزراعية صالحة للاستعمال.
وانعكست هذه الكارثة الزراعية مباشرة على الأمن الغذائي. ووفق تقرير صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA)، فإن 81% من الأسر في غزة تعاني من سوء شديد في استهلاك الغذاء، بينما وصلت 24% من الأسر إلى مستوى الجوع الحاد جدا، وهو ما يصنفه نظام التصنيف المرحلي المتكامل (IPC) كعتبة دخول المجاعة.
أما الأطفال، فهم أكثر من يدفع ثمن هذا الانهيار الإنساني، إذ وثقت فرق الرعاية الصحية إصابة نحو 12 ألف طفل دون سن الخامسة بسوء تغذية حاد خلال شهر يوليو وحده، وهو أعلى رقم مسجل منذ بداية حرب الإبادة.
وعلى صعيد الرعاية الصحية، ذكرت منظمة الصحة العالمية أن أكثر من 14,800 مريض، من بينهم حالات خطيرة وأطفال، لا يزالون في انتظار الإخلاء الطبي العاجل.
وإلى جانب ذلك، تواجه المستشفيات في غزة خطر الانهيار الكامل بعد نفاد الوقود اللازم لتشغيل مولدات الكهرباء، وهو ما تسبب في تقليص الخدمات الحيوية، خصوصا في أقسام الطوارئ والعناية المركزة وغرف العمليات.
وفي ظل هذه المعطيات، حذرت الأمم المتحدة من أن القطاع يعيش بالفعل مراحل متقدمة من الانهيار الإنساني، وأن استمرار القيود ومنع دخول المساعدات والوقود يقود إلى مجاعة شاملة وارتفاع غير مسبوق في أعداد الضحايا، خاصة بين النساء والأطفال.
ويجد الغزيون أنفسهم بين مطرقة القتل والتجويع والتعطيش، وسندان تهديدات عسكرية احتلالية بتشريدهم مجددا، لكنهم لا يملكون سوى خيار واحد: هو البقاء في أرض رووها بدمائهم.

