قبل نحو 110 سنوات اتفق مارك سايكس ممثلا لبريطانيا و»فرانسوا بيكو» ممثلا لفرنسا على إعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط بأكملها، مع هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. بعدها أقرت حكومتا البلدين خريطة التقسيم. وفي هذا الأسبوع بعد 110 سنوات يتكرر المشهد تقريبا بطريقة ساخرة، تبعث على الحسرة، في البيت الأبيض، حيث يعيد الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والأمريكي دونالد ترامب رسم خريطة النفوذ في منطقة الشرق الأوسط بأكملها.
قبل أكثر من 110 سنوات كانت القضية المحورية هي إنهاء وجود الهوية السياسية العثمانية، وتوزيع أملاك الرجل المريض، ورسم حدود سياسية لدول وليدة، وعروش لحكام جدد. أما الآن فإن هدف قوى البغي والعدوان هو تصفية الهوية الفلسطينية، وإنهاء حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة، بل ترحيله. إن لب القضية في بؤرة الإدراك الإسرائيلي ليس تصفية حماس، وإنما تصفية الشعب الفلسطيني، من خلال حرب إبادة وحشية، وهدم أهم مقومات الهوية الفلسطينية، وهي الأرض الحاضنة للهوية والثقافة والتاريخ. لكن ما لا يعلمه نتنياهو وترامب والمتواطئون معهم هو، أن الفلسطيني سيظل يحمل هويته معه أينما ذهب، وسيظل يحمي أرضه ببندقيته طالما بقيت فيه الروح، وسيظل يقاتل من أجل خَلاصِه وإقامة دولته مهما كان الثمن.
الفلسطيني سيظل يحمل هويته معه أينما ذهب، وسيظل يحمي أرضه ببندقيته طالما بقيت فيه الروح، وسيظل يقاتل من أجل خَلاصِه وإقامة دولته مهما كان الثمن لقد خسر العرب بسبب حكامهم فرصة تاريخية لإقامة نوع من توازن القوى في الشرق الأوسط، يحرم إسرائيل من مزايا الردع العسكري التقليدي والردع النووي. وبسبب ذلك قد تقع المنطقة فريسة لأطماع إسرائيل لعقود مقبلة. مع زيارة نتنياهو للعاصمة الأمريكية، تشعر إسرائيل بأنها تقترب من تحقيق حلم الهيمنة المطلقة على المنطقة، بتواطؤ عربي، وحماية أمريكية، وعجز أوروبي، وغياب صيني وروسي. اليوم تتكرر مأساة سايكس – بيكو في صورة مختلفة هزلية ومبكية في آن واحد.
غزة تقرر
استطاع نتنياهو وترامب إنهاء حرب إسرائيل على جبهات أخرى في عدة أيام، لكنهما فشلا حتى الآن في إنهاء حرب غزة المقاتلة الصامدة، وغزة، وليس نتنياهو أو ترامب، من سيقرر مصير هذه الحرب ومصير الشرق الأوسط لعشرات السنين المقبلة. حرب غزة لم يكسبها نتنياهو، فجنود الجيش الإسرائيلي المحتجزون لا يزالون هناك في قبضة المقاومة. و»حماس» لا تزال تحمل السلاح وتنفذ عمليات ضد قوات الاحتلال، فتوقع القتلى والجرحى من بيت حانون شمالا إلى رفح جنوبا، وتشعل الصراخ في إسرائيل عن ضرورة وقف الحرب وإعادة المحتجزين. لقد أصبحت حماس أيقونة الكفاح من أجل التحرر، وجعلت القضية الفلسطينية واحدة من قضايا التغيير السياسي في العالم كله. ومع أن حماس ليست دولة مثل إيران، ولا تملك الأسلحة التي تملكها دولة مثل المملكة السعودية، فإنها لا تزال صامدة، وتفاوض بشرف من أجل حق الشعب الفلسطيني ضد لاءات نتنياهو وترامب للدولة الفلسطينية، وبقاء الفلسطينيين في غزة وللسلام، لقد صنعت ولا تزال معجزة حقيقية بكل المقاييس، ولا تزال الطرف الذي يعترف نتنياهو وقيادته العسكرية بأنها القوة السياسية/ العسكرية التي لم تنهزم، ولا تزال تملك إرادة مواصلة القتال. إنها تحتجز جنودا اسرائيليين منذ ما يقرب من 22 شهرا، بينما إسرائيل لا تزال عاجزة عن تحديد أماكن احتجازهم، رغم اتساع المساحة التي باتت تسيطر عليها في قطاع غزة، واستخدام أحدث أنواع تكنولوجيا الاستشعار عن بُعد، لمحاولة رصد أماكن احتجازهم، بمساعدة طائرات بريطانية وأمريكية، مجهزة خصيصا لذلك. ومع مرور الأيام، يتعرض جيش الاحتلال للمزيد من عمليات المقاومة البطولية، ويعاني من نزيف الدم والسلاح وتدهور الروح المعنوية لدى أفراده، بينما تبرهن المقاومة على أنها قادرة على القتال حتى آخر رجل من رجالها، وآخر رصاصة لديها.
سيناريو الفوضى
وبعد أن عجزت إسرائيل عن قتل روح المقاومة، رغم القتل والتدمير والتهجير، فإنها تلجأ الآن إلى سيناريو الفوضى المدمرة، وهو أحد السيناريوهات التي أعدتها للانتقام من غزة. وراء هذا السيناريو يوجد انقسام حاد داخل الحكومة الإسرائيلية، بشأن صفقة تبادل الأسرى والمحتجزين ووقف الحرب، وهل يبقى جيش الاحتلال في غزة أم يرحل عنها. الجيش يرفض البقاء في غزة ويهدد بالعصيان، لأنه لا يستطيع القيام بدور الشرطي الذي يحفظ الأمن هناك.
وفي الوقت نفسه فإن نتنياهو يرفض عودة السلطة الوطنية الفلسطينية، أو بقاء حماس على مقعد الإدارة. يتبقى بعد ذلك مشايخ القبائل، وزعماء العصابات الإجرامية، والمنظمات العميلة التي صنعها جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي «الشاباك». سيناريو الفوضى المدمرة هو الأقرب إلى عقلية نتنياهو، لأنه من خلال نشر الجريمة والفوضى، يستكمل تحقيق هدف تحويل قطاع غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة، ويجعل خيار الرحيل أقرب الخيارات بالنسبة للشعب الذي يبحث عن حياة آمنة.
كما أن هذا السيناريو يسمح بتطاير شرر الفوضى عبر الحدود إلى مصر، ويضع سكان غزة أمام أربعة خيارات، لا خامس لها، الخيار الأول، الهروب عبر البحر ومواجهة خطر الموت بين أمواجه. الثاني دق أسوار الحدود مع مصر ومحاولة الهروب عبر دروب سيناء إلى أي مكان. الثالث التقدم إلى السلطات الإسرائيلية بطلب للهجرة إلى الخارج والاستفادة من التسهيلات التي تقدمها لتشجيعهم. هؤلاء سيتم عزلهم في معسكر خاص تمهيدا لترحيلهم. أما الخيار الرابع فهو الموت على أيدي عصابات المجرمين وصناع الفوضى العملاء لإسرائيل وقوات الاحتلال والمستوطنين.
البديل عن حماس في غزة هو الفوضى، وقد رأينا ذلك بوضوح في عملية توزيع المساعدات الإنسانية بواسطة مؤسسة أنشأها جيش الاحتلال. إن وقف عمل منظمات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الإنسانية المستقلة جعل الوضع الإنساني في غزة يسوء كل يوم، حتى تحولت لمجرد ركام لا تصلح فيه حياة، أو خيام تتنفس تحت فحيح أصوات الدرونز الإسرائيلية وضجيج جنازير المدرعات. المقاومة الفلسطينية فعلت أقصى ما تستطيع.. ولا تزال تشن عمليات منظمة ضد جيش الاحتلال بما تبقى لها من قوة. هي لن تسلم ولن تستسلم، لكن غيرها ممن يحملون شارات القيادة الرسمية، اختاروا لأنفسهم القيام بوظيفة التسليم، والبحث عن صيغة للتوافق مع إسرائيل.
وطبقا لرؤية جيش الاحتلال، التي عبّر عنها مبكرا رئيس الأركان الحالي إيال زامير، ومن قبله، كل من وزير الجيش ورئيس الأركان السابقين، فإنه من المستحيل تحقيق هدف إنهاء وجود حماس واستعادة المحتجزين في الوقت نفسه. فاستمرار الحرب يعني موت المحتجزين. ومن ثم فإن الجيش يعارض فكرة نتنياهو عن تحقيق أهداف الحرب كلها في آن واحد. وطبقا لتصريحات أدلى بها وزير الجيش يسرائيل كاتس يوم الإثنين الماضي، فإن الجيش سينسحب من معظم المساحة التي يسيطر عليها حاليا، لتركيز مجهوده العسكري في مساحة 25% فقط من القطاع، بما في ذلك محور نتساريم في الشمال، ومحور فيلادلفيا في الجنوب. ما أعلنه كاتس يترك علامات استفهام كبيرة حول دور حماس في جنوب القطاع، خصوصا رفح وخان يونس، إضافة إلى الغموض بشأن الجهة التي ستتولى إدارة القطاع.
مفاوضات الدوحة
يلوح في الأفق أيضا خلاف بين نتنياهو وترامب بشأن ثمن التطبيع الإسرائيلي مع السعودية. ويريد ترامب سحب الحوت السعودي إلى بِرْكة مياه ضحلة لإقامة علاقات مع إسرائيل، من خلال اتفاق سريع لإعلان إنهاء حرب غزة، يتضمن قبول حماس بإلقاء السلاح نهائيا، ما يسمح للدول العربية بالمشاركة في إدارة القطاع. وفي الوقت نفسه، من أجل طمأنة السعودية أيضا، يعمل على إصدار إعلان بتوسيع نطاق السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، مع ترك مساحة لنشاط السلطة الفلسطينية، بشرط إدخال إصلاحات جوهرية على تشكيلها وأساليب أداء عملها، بما يتوافق مع المصالح الإسرائيلية، واستخدام المساعدات العربية وسيلة للضغط عليها لتحقيق ذلك.
هناك إذن سيناريوهات مختلفة لنتائج محادثات ترامب ونتنياهو في واشنطن. ومن المرجح أن يقدم نتنياهو بعض التنازلات التكتيكية المؤقتة، بما يضمن له الفوز بالأغلبية والاحتفاظ بالحكم في الانتخابات المقبلة. وإذا تردد نتنياهو في القبول ببعض التنازلات خشية انفراط عقد الائتلاف الحكومي، الذي تمسك الأحزاب الصهيونية الدينية المتطرفة برقبته، فإننا نرجح تشجيع يائير لابيد زعيم المعارضة الحالي، الذي قام بزيارة للإمارات مؤخرا، على إصدار بيان بضمان تأييد نتنياهو في الكنيست، وربما الدعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة نتنياهو، تنضم إليها بعض أحزاب الوسط، بشرط إنهاء الحرب تماما، واستعادة المحتجزين، على اعتبار أن ذلك هو المطلب الأول للناخبين. ومع ذلك فإن نجاح أي اتفاق في الدوحة يتوقف على كلمة المقاومة في غزة.

