وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ
*﴿بِضاعَتَهُم رُدَّتْ إِلَيهِم*﴾(يوسف: 65)
كما رُدّت بضاعة إخوة يوسف إليهم، ها هي أدوات العدوان التي ألقاها العدو على غزة تعود إليهم، لا كسلاح هدام فحسب، بل كوقودٍ لإرادةٍ لا تُقهَر، وشعلةٍ لا تنطفئ في قلب أمة صامدة.
النار التي تشعلها غزة لا تتوقف عند عبوات الشواظ، بل تتجاوزها إلى إرادة شعبٍ أصمّ إلى كل حصار وخطر، يُبدع ويقاوم، يُحوّل رصاص العدو إلى نار تحرق أوكاره، ويعيد تصنيع الموت ليصبح سلاح حياة وكرامة. رغم الألم والدم، تبقى غزة مدرسة للمقاومة والابتكار، تحكي قصة إصرار لا تعرف الانكسار، وشموخًا يصنع من الحصار فرصةً لصنع الانتصار.
عبوات الشواظ التي أعيد تصنيعها من "بضاعتهم التي ردت إليهم" لم تكن مجرد أدوات دفاع، بل كانت الشرارة التي أشعلت ملاحم عزّ وإباء في أحياء بيت حانون وخانيونس والشجاعية. هناك، في تلك الأرض التي لا تنحني، تحولت هذه العبوات إلى حجارة داوود التي أرعبت جبروت الغول، وصنعت مشاهد انتصار سجلها التاريخ بدماء الأبطال وإرادة الأحرار. هي رسائل مقاومة تتوهج في أيدي الشباب، تعيد كتابة المجد على جدران الحصار، وتؤكد أن غزة تبقى حرة لا تُقهَر.
رغم الحصار المطبق الذي قطع كل سبل الدعم والإمداد، لم تستسلم غزة لليأس أو القيد. بل كانت المحنة وقودًا لإبداع مستمر، حيث تحولت الموارد المحدودة إلى فرص لتطوير صناعة السلاح المحلية. من عبوات الشواظ البسيطة إلى صواريخ دقيقة ومديات متقدمة، ومن الطائرات المسيرة التي تؤدي مهامًا متنوعة إلى شبكة أنفاق حفرتها الأيادي العزيزة بأظافرها لتكون خط دفاع متين تحت الأرض، أثبتت غزة أنها ليست مجرد أرض محاصرة، بل ورشة تصنيع مقاومة حية. هذا الإنجاز صنع بجهد وعلم وإرادة، كسر به الحصار، وأذهل العالم بعزيمة شعب لا يلين.
لقد جرى على غزة حصارٌ خانق، وقطعت عنها أصناف عديدة من السلع والمواد بحجة “مزدوجة الاستخدام”، إلا أن هذا الحصار كان بمثابة حافزٍ لتطوير ذاتها، وتعزيز قدراتها رغم الضعف، حتى صارت مثالًا حيًا على أن الإرادة والتصميم هما رأس المال الحقيقي. صنعوا صواريخهم بمديات متعددة، وطائرات مسيرة تخدم مهام متعددة، وحفرت أنفاقها بأظافرهم، وكأنها تضاعف مساحة الأرض التي يقفون عليها صامدين.
وفي قلب هذه المحرقة التي أودت بالحرث والنسل، ودفعت غزة لاحتضان الموت على كل شبر من أرضها، أبت أن تخرج من مسيرتها، بل صنعت من دمارها سلاحًا، ومن أنقاضها عزة لا تزول. آلاف الأطنان من المتفجرات التي أُلقِيَت عليها تفوق في قوتها قنابل هيروشيما وناجازاكي، لكنها لم تُسحق عزيمة أهلها، بل أعادتهم لصناعة عبوات تفجر أوكار العدو وتجعلها جحيمًا على جلاّديها.
إن غزة، اليوم، تمثل نموذجًا حيًا للإرادة التي تنتصر رغم كل شيء؛ إرادة الحياة التي لا تقهر، والتي لا يملك أعداؤها إلا أن ينكسروا أمام صمودها وثباتها. إنها قصة كفاحٍ يتجدد يومًا بعد يوم، ينسج من دماء الشهداء سيرة مجدٍ وعزة، تؤكد أن الحقّ سينتصر مهما طال الزمن.
{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} (البقرة: 249)
وإن غدًا لناظره قريب.

